د ليلي الهمامي .. لمن لا يعرفها

 

أنا اسمي ليلى حفيدة عمر الشهيد، من سقف جبل عرباطة الى سبالة أولاد عسكر، يقولون ان عمري في الثلاثين وعندما اتعب ابدو في الاربعين… “عادة” أعيش في منزل يحتوي على غرفة لأبي المتوفي وبرنوسه القهوي وغرفة كنت استخدمها للتمريض حين كانت امي تحت ماكينة تصفية الكلى… رحمهما الله… ثم غرفتي التي تطل على الجزء العلوي غير المرئي من جبل ڨمرت حيث لا ملاهي ولا مقاهي، فقط شجر الصنوبر والطيور التي يمكنها ان تلحق عاليا مع بعض الحمام الذي يسكن شجر حديقتي مع عائلة من القطط الرمادية التي تتنزه كل يوم لتوقظني صباحا على غرغرتها وصوت خربشاتها… هنا اعيش على الهدى وبالستر.

لم اعمل يوما ببلدي ولا اشتغلت ولا شغلت منصبا ابدا لا صغير ولا كبير ولا خرجت من منزلي الا لاقتني شيئا يسهل اقتناؤه دون أن يراني أحد.. وانا داخل سيارتي المتواضعة…

حياتي هنا كلها بين المزرعة والبيت، الدجاجات، “والسعي” والمطبخ وصحن الجلبانة، وقارورة اللبن البلدي. لا اعرف الكتير عن حياة وسط البلد، ولا اسرار شارع الحبيب بورڨيبة ولا المقاهي ولا حتى المطاعم، لكني طباخة ماهرة حسب قول جارتي… “صحة للي باش ياخذك”… تعلمت من والدتي كيف أفتح باب منزلي بحنان، وأغلقه بكرامة.

أنا في الاصل ابنة حي شعبي… ابنة أصول جنوبية… لا اتقبل الكذب أبدا حتى في أتفه الأمور ولا أفهم دوافعه، لا أحب مساحيق التجميل التي تغطي الحقيقة، لون وجهي من تعرضي للشمس، اصفر برتقالي، وقلبي أبيض مثل رغيف الخبز النيء… سامح الله ظروف التصوير ووجوب الظهور بمظهر “سياسيا صحيح” بما أكتب حسب ما اصطلح عليه بكذا..

أحيانا حين أتحدث لبعضهم ممن يرون شدة مظهري ولا يعرفون سهل حقيقتي.. أقول في غيابهم لو تعون ريحة شروق الشمس قبل طلوعها، وقبلهما نسيمات مسك الليل حين توقظنا من النوم، وكيف يكون صوت اول عصفور يحط على شجرة الصنوبر التي تغطي أغصانها نافذتي، وكيف وأنا أصنع خبز الغناي على طاجن الطين، كم يتمنى قلبي لو كان هنالك أحد واقف إلى جانبي يقول: “تعالي نكمل عمرنا كجيران زمان، معا”… لكني أعيش على ذكريات أبي وأمي ووجوه كثيرة قابلتها في ما شغلت من مناصب في الغربة، وجوه أصفر بكثير من وجهي… لكنها أيضا كانت وجوها قاسية كطقس أوروبا الشمالي باردة كثلوجها…

بحثت في مرحلة ليست ببعيدة عن دور أشعر من خلاله أني أهب شيئا من روحي إلى من هم من نفس طينتي، ومن تنفسوا هواء البلد الذي كبرت في أحضانه وتربيت على حبه، فوجدت العواصف تقذفني نحو مجال دراستي الاول وتخصصي وتدريسي، نحو علوم السياسة التي علمتها لطلبتي وصنعت منهم نوابا ووزراء ومسؤولين في دول كثيرة هي الاقرب الى حالة الديمقراطية التي عشتها في بيت ابي قبل ان اسمع عنها وادرسها واعلمها واربي اجيالا تؤمن بها بحالة الحرية الممزوجة بالمسؤولية وتناسق مع قيم الانسانية الكونية…

وجدت نفسي في عين العاصفة الساكنة سكون الخبث قبل هيجانه… لم أكن أعلم أنني في عين العاصفة لكنني كنت على يقين أن عين الله ناظرة الي وقلبي مطمئن رغم توتر كل ما كانوا حولي…

ليس لي في النسوية، لكني اشعر بمعاناة النساء في مجتمع ذكوري لا يرحم الضعفاء ولا من استضعفوا بعد قوة… لا أؤمن بمنظمات دولية أو أحزاب يمولها اجانب دون مصالح خبيثة لذلك لم اهتم ابدا لوجودها… لم أؤمن حتى بمنظمات حقوق الانسان لأني كنت أعيش مع ذلك الانسان المسلوبة حقوقه دون وعي منه…

ما يدعوني احيانا للضحك هو النظرة الدونية التي يحاول بعض المتحزبين قذفي بها كوني لا أنتمي لأحد منهم “الى العائلة السياسية”، عائلتهم… لكني حاولت التقرب لأفهم ماذا يريدون من هذا الشعب، لأني حقا لا أر ماذا أضافوا للمجتمع بعد السبعينات غير الشعارات والشعوذات وبعض الترهيب والترغيب وكثير من الكذب والتعثرات…

أنا امرأة في كل هذا، تمسكت بمطبخي ومكتبتي وطلبتي وبعض الزيارات للمتاحف والمسارح ودور السينما حين تتوفر … أحبَّ الله أن أنجح في كل ما سعيت إليه من جامعات ومراكز بحث وحتى بنوك عالمية…

هاكم أنا، لا أنا بالراكضة وراء الأموال ، ولا السيارات، ولا السكن الفخم والله أعطاني من خيره الكثير ومن نعمه ما أشكره، هو الله الى يوم نبعث فيه جميعنا…

كل ما تمنيته كامرأة، متجردة من جميع ما اعتليت من مناصب والله يعلم وسيرتي تشهد انني فعلت، كل ما تمنيته رجل..، يخاف الله، يفهم أن المرأة قيمة تضفي المعنى الحقيقي الى قيمته، ككائن يُحتفظ به في القلب ويصان في العين مجازا ومعنى، بالفعل والنية .

حقيقة، لا تروقني حياة المشهورين بأنواعهم ولا رجال الاعمال ولا اهل السياسة ولا اهل الدين… اهل الدين ال”حشريين”… لأني فعلا حفظت منذ طفولتي القرآن حزبا حزبا ومكتبتي تحتوي من كتب الفقه والفلسفة ما لا يوجد في مكتبات الجامعات… وما فتئت أعلن أني لم أتعلم من العلم الا القليل القليل…

أستغرب ممن يراني قوية ويصفني بذلك اللقب المرعب “امرأة بألف رجل”… انا التي لا تملك غير فكر شفاف ونفسية متعبة من السفر والتنقل، ببيتي -على فخامته في أعين الكثيرين-، بسيط ازرع به العطرشية والنعنع، وأعلّق على حيطانه صور الدفء، لا رسومات الفنانين الملخبطة العصرية التي مهما تفقهت في فن الرسم لن أفهم التشوهات الخلقية التي يطبعونها فوق اوراق مؤطرة وكيف يتذوقونها فيزينون بها حيطان بيوتهم. أنا لا أستسيغ أغاني الراب مع احترامي لمحبيها، لأني لا أفهم كلماتها ولا الحركات الغريبة التي يرقصون على ايقاعاتها الملخبطة…

لا أفهم وسائل التواصل الاجتماعي الاخيرة وظهور متدينات بمساحيق بكل الألوان لا يوحي كلامهن بأي معنى، والحضور الجريء يشرّعه الحجاب المسكين الذي مسحوا فيه كل ما يدعو للتقيء…

أتسائل أحيانا عن جدوى كتاباتي على هذا الفضاء، وحقي في نشر صوري لحفظ حقوق النشر لما أكتب ولمسؤوليتي… أنا لا أحترم النصائح المجانية من غير اهل التخصص والعلم، النصائح الخبيثة التي أقرؤها في بعض التعليقات خاصة تلك السلبية العدمية التي تحث على الغوص في الاحباط وتشجع على الاستسلام للا شيء أمام أي تحدي لصعوبات الواقع المرير والخطير الذي نعيشه، أو للتقدم والعلو الى منازل أرق انسانيا وحضاريا.
تحياتي لكم جميعا.
د. ليلى الهمامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى