الزبير بن العوام .… وجبريل عليه السلام

بقلم: ناصر السلاموني
حين ترد سيرة الأبطال في تاريخ الإسلام، يبرز اسمٌ يلمع كالبرق وسط الظلام… فارسٌ إذا ذُكر اسمه في ساحة القتال تبدّل لون السماء، وارتجفت قلوب الأعداء قبل أن ترتفع السيوف. إنه الزبير بن العوام رضي الله عنه، البطل الذي صاغ حياته بين ميادين الجهاد، والوفاء، والصدق، والشرف. هو ابن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن أوائل من آمنوا وهاجروا ونصروا، حتى استحق لقبًا لا يُمنح إلا للصفوة المختارة: حواريّ رسول الله ﷺ.
كان الزبير بطبعه شجاعًا لا يعرف التردد، أسلم وهو فتى صغير، لكنه حمل قلب رجلٍ ينهض لنصرة الحق. رأى الظلم على المستضعفين فهبّ لرفع الأذى عنهم، وجهر بدعوته حين اختبأ الكثيرون، وكان من أوائل من سلّ سيفه دفاعًا عن رسول الله ﷺ. وفي ميدان القتال، بدا كأنه لوحة كاملة القوة؛ طويل القامة، شديد البأس، مهابا من أول نظرة. يجيد القتال بسيفين في آن واحد، حتى لقّبه الكفار في الجاهلية بالمارد الملثم، وإذا اعتلى فرسه بدا وكأن الفارس والفرس كيان واحد لا ينفصل.
وفي يوم بدر، ذاك اليوم الفارق الذي انتصرت فيه السماء للأرض، نزل جبريل عليه السلام مقاتلًا مع المؤمنين. وجاء في الروايات الصحيحة أن الملَك تمثّل في صورة رجل واحد من المسلمين هو الزبير بن العوام. يا لها من كرامة عظيمة! أن يختار الله صورة رجل من البشر لتتشبه بها الملائكة، وكأن الله سبحانه يخبر العالم بأن الزبير هو النموذج الكامل للفارس المؤمن قوةً وشجاعةً وصدقًا ووفاءً. لقد كان ذلك التشريف وحده كافيًا ليخلّد اسمه في أرفع صفحات العظمة.
ولم يقف تاريخ الزبير عند بدر، فحين طال حصار حصن بابليون في مصر سبعة أشهر كاملة دون أن يُفتح، أرسل عمرو بن العاص يستمد الفاروق عمر. فجاءه الدعم برجلي المهمات المستحيلة: الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة. وما إن وصل الزبير حتى تبدل وجه المعركة. فقد تسلق الأسوار الشاهقة بيديه، في مشهدٍ يكاد يناقض قوانين البشر. وقف الروم مذهولين، يظنون أنهم يرون مخلوقًا من عالم آخر. وما إن بلغ القمة حتى رفع سيفه وصاح صيحة هزّت القلوب: الله أكبر. حينها تزلزلت نفوس الروم، وفتحت مصر أبوابها للإسلام.
وكان الزبير قريبًا من أهل النبوة نسبًا وخلقًا وسيرةً؛ فهو ابن عمة النبي ﷺ، وزوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، ووالد الصحابي الشهيد عبد الله بن الزبير، ومن السابقين الأولين، وعضو مجلس الشورى الذي اختاره عمر رضي الله عنه. بيته كله إيمان وجهاد وبطولة.
أما نهايته فكانت صفحة مؤلمة من صفحات الفتنة الكبرى. ففي سنة 36 هـ، وأثناء أحداث وقعة الجمل، التقى الزبير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. فذكّره عليٌّ بحديث للنبي ﷺ: «لتقاتلنّه وأنت له ظالم». فارتجف قلب الزبير وقال: “أستغفر الله… والله لا أقاتلك.” ثم انسحب من ساحة المعركة، متجهًا نحو وادي السباع قرب البصرة، لا يريد قتالًا ولا خلافًا. لكن يد الغدر لاحقته، إذ تبعه رجل يُدعى عمرو بن جرموز، فقتله وهو منصرف غير مقاتل. فلما وصل سيفه إلى علي رضي الله عنه، تألم وقال كلمته الخالدة: “بشّر قاتل ابن صفية بالنار.”
رحل الزبير كما عاش… ثابتًا على الحق، رافضًا سفك دم مسلم، تاركًا للأمة سيرة تُعلّم الأجيال معنى الرجولة والإيمان.
لقد عاش الزبير بن العوام فارسًا، ومات شهيدًا، وبقي اسمه خالدًا في جبين التاريخ.



