“كلام مكلكع” أم مفتاح لفهم حياتنا؟

بقلم د. قياتي عاشور
في مقالي السابق، “النظرية حياة”، ناقشنا كيف أن النظرية الاجتماعية ليست مجرد ترف أكاديمي، بل هي أداة حقيقية لفهم وتغيير واقعنا. ولكن، يبقى أمامنا تحدٍ كبير للإجابة على سؤال: لماذا يجب أن نهتم بكلام قاله علماء ومفكرون من مئات السنين؟ قد يبدو هذا الكلام “مكلكعًا” وبعيدًا عن حياتنا اليومية ومشاكلنا. لكن الحقيقة أن هذه الأفكار القديمة هي التي تعطينا الأدوات لنفهم عالمنا بشكل أعمق. كباحث في علم الاجتماع، اكتشفت أن هذه النظريات السوسيولوجية ليست مجرد كلام في كتب، بل هي مفتاح لفهم مشاكل حقيقية، مثل أزمات الشباب، وتقديم حلول بسيطة وفعالة.
المشكلة أننا نشعر أن هذا الكلام لا يخصنا. عندما يتحدث عالم مثل ماركس عن تاريخ طويل ومعقد، نشعر أن هذا بعيد جدًا عن مشاكلنا اليومية الصغيرة. كما أن طريقة كتابة هذه النظريات قديمة، فهي أحيانًا تبدو كأنها فلسفة أو آراء شخصية أكثر منها علمًا واضحًا، وهذا ما يجعل قراءتها ثقيلة ومملة. ببساطة، نشعر وكأننا نقرأ دليلاً لجهاز لم نعد نستخدمه.
لكن السحر الحقيقي يظهر عندما نأخذ الفكرة الأساسية ونشرحها بأمثلة من حياتنا. فالنظرية تعطينا كلمات لنفهم أنفسنا وسط التاريخ والسياسة والاقتصاد الذي يؤثر فينا كل يوم، وتجعلنا نتساءل: هل ما نعتقده صحيح دائمًا؟ كما أنها تجعلنا أكثر تعاطفًا، فعندما نفهم لماذا يختلف الناس عنا، نصبح أكثر قدرة على احترام هذا الاختلاف بدلًا من تأجيج الخلافات.
إذن، كيف يمكننا أن نجعل هذه النظريات القديمة سهلة ومفيدة؟ أقترح فكرتين بسيطتين.
أولاً، دعونا نتوقف عن وصف هذه النظريات بأنها “قديمة”، وبدلاً من ذلك نركز على الأفكار العبقرية التي ما زالت صالحة حتى اليوم. مثلًا، أحد العلماء القدامى تحدث عن “طاقة الجماعة”؛ وهي تلك القوة التي نشعر بها عندما نتجمع معًا في مناسبة سعيدة أو حتى في وقفة احتجاجية. هذه الفكرة البسيطة يمكن أن نفسر بها كيف أن “اللمة” في الأحياء الشعبية وقت الأزمات تقوي الناس، أو كيف تؤثر مجموعات “فيسبوك” على علاقاتنا. هكذا تتحول النظرية من كلام جاف إلى شيء نعيشه ونحسه.
ثانيًا، لنركز على الأسئلة الكبيرة التي طرحها هؤلاء المفكرون وما زالت تشغلنا جميعًا. أسئلة مثل: كيف نعيش معًا كبشر رغم كل اختلافاتنا؟ وكيف ننظم حياتنا عندما يكبر عددنا وتتنوع اهتماماتنا؟ هذه الأسئلة تشبه ما يحدث في أي بيت؛ عندما يأتي طفل جديد أو يسكن معنا فرد آخر، تتغير القواعد. من يقرر كيف نتقاسم الموارد أو المسؤوليات؟ إذا فهمنا هذه الديناميكية البسيطة في البيت، سنفهمها بسهولة أكبر سواء كنا نتحدث عن أسرة أو عن بلد بأكمله.
في النهاية، النظريات القديمة ليست شيئًا ميتًا، بل هي طريقة لنفهم حياتنا الآن. في مصر، ومع مشكلات مثل الغلاء أو الزحام، يمكن أن تساعدنا هذه الأفكار على التفكير معًا في حلول قريبة من الناس. هدفنا هو أن نجعل الطلاب والناس العاديين يرون قيمتها، فيصبحون أكثر قدرة على فهم أنفسهم، وأكثر تعاطفًا مع بعضهم البعض.
وبهذا، يتحقق الهدف الأسمى: أن تصبح “النظرية حياة” فعلاً، لا مجرد فكر حبيس الكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى