الوحدة العربية ممكنة من خلال النخب قبل الأنظمة (٢)

بقلم د ليلي الهمامي

 

 

عندما طَرحتُ مسألة الوحدة، طرحتها من زاوية برغماتية، لا علاقة لها بالشوفينية، لا علاقة لها بالمثاليات أو بالشعارات الشعبوية. أعتقد أنها ضرورة تاريخية؛ من زاوية الاقتصاد والديموغرافيا والموقع الاستراتيجي والثروات على اختلاف اشكالها.

أعتقد أن الاتجاه نحو إعاده إنتاج النموذج الاوروبي، نموذج الاتحاد الاوروبي، الذي يحافظ على شخصية الدولة الوطنية، ليجعل من الدول الاعضاء في اجتماعها قاعدة لبناء المؤسسات المشتركة، المؤسسات الاوروبية المشتركة، هذا ممكن بالنسبة لنا. تاريخيا التوحيد يتم إما بحد السيف، أو بالتدرج وفق العمل الدبلوماسي، وفق مقتضيات البحث عن التكامل والقواسم المشتركة. هذا هو فكري وهذا هي عقيدتي.

أعتبر أن هذه ضرورة، ومن هذا الباب، من زاوية أن نحافظ على الدول الاعضاء، ومن زاوية أننا نتجنب الاستراتيجيات البعثية، التي كانت تراهن على قلب الأنظمة، التي كانت تصنفها رجعية، والتي كان يصنفها الغرب بكونها الانظمة المعتدلة، في المنطقة العربية، من خلال اقامة القيادة القومية… بعيدا عن هذه الاستراتيجية، أعتقد أن البناء المتدرج، انطلاقا من التعليم، انطلاقا من البحث عن القواسم المشتركة في تاريخنا، انطلاقا من توحيد حتى تعليم اللغات، والتقنيات في علاقة بمجالات الهندسة والطب والذكاء الاصطناعي، تبادل الخبرات، ضمان الحركه الحره والتنقل الحر للمواطنين العرب، منح امتياز للمواطنين العرب في دخول الاراضي العربية، مع اعتبار بالطبع، الشرط الأمني وضرورة التثبت الأمني..، هذه هي الاشياء التي من شأنها بناء الشخصية المشتركة؛

إعادة تنشيط الشخصية العربية لأن الشخصية العربية قائمة، موجودة، وهي محفوظة لدى الشعوب، الى حد ما، رغم أن عديد المناسبات تبرز فتورا وهبوطا في منسوب الشعور القومي لدى مختلف الشعوب، لكن هذا لا يمنع أن ثمة شخصية مشتركة، شخصية عربية مشتركة ثرية وملونة، بين مختلف مكونات هذا العالم العربي. أننا انطلاقا من المعطى اللغوي، يمكننا ان نؤسس لاشياء مشتركة من شأنها ان تكون الطريق الممهدة لوحدة ليست بالضرورة اندماجية، ليست بالضرورة بناء لدولة موحدة بنفس الهياكل… لكن نتدرج ، ولو انطلاقا من اصلاح مؤسسات الجامعة العربية وتفعيلها.

ليس من باب المصادفة، الحقيقة،ن نجد أن المؤسسةَ الاكثرَ نجاحا في الجامعة العربية، هي مجلس وزراء الداخلية العرب!!! التبادل الخبري والفني والمعلوماتي بين الانظمة العربية في مجال الامن شغال 100% كما يقال هنا… اليوم، كيف يمكننا أن نؤسس لما هو في علاقة بديناميكية المجتمعات، بما أن الأمن هو الشغل الشاغل للانظمة القائمة، كيف نستغل هذا النجاح، او دعونا ندفع في اتجاه نجاح آخر، في مجال التعليم، نجاح آخر في مجال السياحة البينية. كل هذه المسائل ممكنة.

أنا لا أطرح الاشياء من زاوية سلبية. أعود وأكرر انني اريد ان نتقدم… علينا ان نجرّب، حتى في المعنى والمنهج التجريبي، سنخطئ سنتعثر، لكن علينا ان نصر على النجاح، علينا أن نثابر في المحاولة وليس في ذلك اي استحالة. أعتقد أن جملة من الاشياء ممكنة اذا ما نأينا بأنفسنا عن الاشياء التي تُغضِـب، كما يقول الفرنسيون… يمكن ان ننجح! وهذه قناعتي وسأواصل وسأثابر في هذا النهج.

في المجال التربوي، عشنا تجربة في تونس في علاقه بالعراق، عراق صدام حسين رحمه الله. التجربة خلال الثمانينات تتنقل في هدية من العراق؛ مجموعة من الكتب، من ضمنها كتاب الفلسفة. البكالوريا في تونس خلال الثمانينات اعتمدت كتاب الفلسفه المهدى من العراق، كتاب رائع جدا بفصول متنوعة، استقطب عديد الطاقات الفكرية، حفز عديد الطاقات الفكرية.

حين نذكّر أن البكالوريا في تونس في مادة الفلسفة خلال الثمانينات اعتمدت مرجعا مهدى من العراق، نقول أنه ليس ثمة امر اكثر ملموسية من هذا. يعني أن تجر الوحدة، تجربة توحيد المناهج، تجربة الوحدة القطاعية والجزئية المتدرجة أمر ممكن. يمكننا ان نجح في هذا!!! نجحنا في السابق في عديد المناسبات حتى وان كانت هذه المناسبات بمثابه الاقواس التي تغلق، بعد خلاف سياسي. لذلك ، فقط علينا ان ننأى بما يمكن ان يتحقق عن التجاذبات السياسية وعن المشاحنات. هذا هو المطلوب.

المطلوب من الحكام العرب، ألا يمسوا المكاسب متى توترت العلاقات بينهم… فقط!!! يمكننا ان نتجه نحو بناء كيان موحد، بناء كيان فيه المشترك وفيه المتباين والخاص؛ الخصوصية تُحفظ والمشترك يدعٌَم ويُحفظ ايضا.

ملاحظة : الوحدة استحقاق تاريخي منذ الهزيمة التي مني بها العرب بانتقال الخلافة الى تركيا، وتفكيك الامبراطورية العثمانية… كان المفروض أن يتجه العرب نحو التكتل، نحو التوحد، على مسارات الاندماج التدريجي التراكمي، في مجالات الاقتصاد والتجارة والسياحة والثقافة، في مجال المعرفة والتربية.

كان المفروض أن يتحقق هذا!!! الآن اكثر من أي وقت مضى وسط التكتّلات الدولية والمخاطر المحيطة بنا، وما دام للعرب كل عناصر القوة، وما دام العرب شروط التشكل كقوة اقليمية، بعيدا عن كل طموح عسكري، بعيدا عن كل طموح توسعي، يمكن للعرب ىن يتشكلوا كقوة وأن تنعم الشعوب العربية بالثروات العربية، وبفرص الاستثمار وبفرص التربية وبكل ما للعرب من امكانات… من يدافع عن الانعزالية ومن لديهم رؤية عدمية، هم فقط بعض الانانيات، بعض الحالات الانانية القطرية المتقوقعة على مصالحها الضيقة والتي تنتهي دائما بنهايات سيئة.
د. ليلى الهمامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى