د. قياتي عاشور يكتب : الأستاذ الجامعي صانع عقول نقدية لا موجهًا سياسيًا

مع كل استحقاق انتخابي، يتجدد النقاش حول دور الأستاذ الجامعي في تشكيل الوعي السياسي للطلاب. هل يقتصر دوره على نقل المعرفة الأكاديمية وصقل مهارات التحليل، أم يمتد إلى توجيه الطلاب نحو مواقف سياسية محددة؟ الحياد التام قد يكون طموحًا صعب التحقيق، فالأستاذ إنسان يحمل آراء وتوجهات فكرية تشكل جزءًا من هويته. لكن جوهر المسؤولية يكمن في إدارة هذا التأثير بحكمة وأخلاقية، بحيث لا يتحول التدريس إلى أداة لفرض وجهات نظر شخصية. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يركز الأستاذ على تمكين الطلاب من التفكير النقدي، من خلال تعليمهم كيفية طرح الأسئلة، البحث عن الأدلة، تقييم الحجج، وتكوين آرائهم بشكل مستقل.
في عصر التواصل الاجتماعي والتدفق الهائل للمعلومات، أصبح دور الأستاذ الجامعي أكثر تعقيدًا وأهمية. لم يعد الطلاب يعتمدون على الأستاذ كمصدر وحيد للمعرفة، بل أصبحوا بحاجة إلى مرشد يساعدهم على تصفية هذا السيل من المعلومات وتحليلها بموضوعية. هذا يتطلب من الأستاذ تبني أساليب تدريس حديثة تركز على تنمية مهارات التحليل وتقييم المصادر، مما يمكن الطلاب من التمييز بين المعلومات الموثوقة والمضللة. الجامعة ليست فضاءً لتلقين الحقائق، بل منصة لتطوير التفكير العميق والمسؤول، حيث يتعلم الطلاب استكشاف القضايا المعقدة من زوايا متعددة دون خوف من الإقصاء أو التهميش.
التحدي الأكبر أمام الأستاذ الجامعي هو تحقيق التوازن بين حريته في التعبير عن أفكاره وحق الطلاب في تكوين قناعاتهم الخاصة. هذا التوازن يتطلب التزامًا صارمًا بأخلاقيات المهنة، ووعيًا عميقًا بالمسؤولية الأخلاقية التي يحملها الأستاذ، حيث يمتد تأثيره إلى تشكيل شخصيات الطلاب وقراراتهم المستقبلية. يجب أن يكون الأستاذ قدوة في احترام التنوع الفكري، متمسكًا بالصدق العلمي والشفافية في تقديم المعلومات. كما ينبغي له تقديم وجهات نظر متنوعة وتحفيز نقاشات مفتوحة، مما يتيح للطلاب فرصة التفاعل مع الأفكار بحرية وثقة.
علاوة على ذلك، يمتد دور الأستاذ إلى المساهمة في بناء بيئة جامعية تعزز قيم التسامح والحوار وتقبل الاختلاف كجزء طبيعي من العملية التعليمية. من خلال هذا النهج، يستطيع الأستاذ إلهام الطلاب ليكونوا مواطنين فاعلين، قادرين على مواجهة تحديات المجتمع برؤية مستنيرة ومسؤولية وطنية. لا يقتصر هذا الدور على نقل المعرفة داخل قاعات الدرس، بل يشمل غرس قيم المسؤولية الاجتماعية والتفكير المنطقي الذي يمكن الطلاب من المساهمة في مجتمعاتهم بشكل بنّاء. يجب أن يكون الأستاذ حافزًا للطلاب لتحدي الأفكار التقليدية، واستكشاف حلول إبداعية للمشكلات المعاصرة، مع الحفاظ على احترام الآراء المختلفة.
في النهاية، الهدف الأسمى للأستاذ الجامعي هو إعداد جيل يمتلك الجرأة الفكرية لفهم العالم من حوله، والقدرة على تحليل التحديات المعقدة، والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية. هذا الجيل لا يتبع الآراء بشكل أعمى، بل يسعى لتكوين قناعاته بناءً على التفكير النقدي والأدلة العقلانية. من خلال هذا الدور، يصبح الأستاذ الجامعي ليس فقط ناقلاً للمعرفة، بل شريكًا في بناء مستقبل يعكس قيم العدالة، الحرية، والتقدم. هذه هي المسؤولية الحقيقية للأستاذ الجامعي، التي تجمع بين نقل المعرفة، تعزيز التفكير المستقل، وإلهام التغيير الإيجابي الذي يخدم المجتمع بأسره.