ماكرون يدمّر الجمهورية الخامسة (وكأنه قد كُلُِفَ بذلك)

كتبت د. ليلى الهمامي
تعيش فرنسا منذ سنة 2024 أزمة حادة لم تشهدها الجمهورية الخامسة منذ ان تأسست تحت الجنرال دوڨول سنه 1958… أزمة تؤكد أن أفضل الدساتير وأفضل القوانين المؤثر والمؤطرة والمنظمة للحياة السياسية، يمكن أن تُـفضي الى تأزمات صعبة، في وضع عدم مطابقة النصوص للواقع او فقدان النصوص لمطابقتها للواقع السياسي.
اضطُـرّ الرئيس الفرنسي ماكرون بعد الانتخابات البرلمانية الاوروبية، إلى حل البرلمان وإقاله رئيس الحكومة رئيس الحكومة آنذاك اتال… هذا في اطار الانسجام مع العرف السياسي.
ليس هنالك ما يدفع او يجبر رئيس الجمهورية الى حل البرلمان، لكن الهزيمة في الانتخابات الاوروبية، بموجب العرف والعادة، دفعته الى العودة الى الناخب، والعودة الى سحب السيادة، والعودة الى الشعب لمسائلته حول الثقة، وطلبا لتجديد الثقه في تشكيلته السياسية.
لم تنتهِ الانتخابات التشريعية في فرنسا الى دعم حزب ماكرون ولا الى دعم اليمين، بل أنتجت مشهدا مفكّكا، مشهدا تفتقد فيه الكتل الثلاثة؛ يسار ووسط ويمين، الاغلبية المطلقة. لذلك كانت دوامة تشكيل الحكومات وسقوط الحكومات ولوائح اللوم… آخرها صبيحة أمس، الوزير الأول المكلف لوكورنو (lecornu)
يقدم استقالته، بعد أن تبين أنه لم يعد في امكانه ما يسمح بتشكيل الحكومة، بمعنى حكومة يمكنها ان تحظى بالاغلبية في مخططاتها… المعنى انه ليس للحكومة ان تنال الثقة من البرلمان..، لكن تحديدا، الحكومة ستكون عاجزة على تمرير مشاريع قوانينها وعلى تمرير مشروع الميزانية، اذا لم تكن تحظى بتوافقات تجمع بين كتلتين على الاقل- وكذلك كان الوضع.
لوكورنو في تصريحه يقول “ليس هنالك تفاعل”، ويؤكد بان الأحزاب لم تغلّب المصلحة الوطنية.
في المقابل تتجه المسارات السياسية، والمسار السياسي على الاقل بالنسبة ليسار ميلونشون (Mélenchon)
نحو محاولة إقالة رئيس الجمهورية ماكرون.
إذًا، الرئيس الفرنسي ماكرون مهدد بالاقالة، وذلك على الرغم من أن عملية الاقالة تحتاج الى الكثير من الاجراءات المعقدة في علاقة بالبرلمان وبمجلس الدولة.
هذا يعطينا نحن كعرب درسا في أمرين على الاقل: أولا أن المسالة السياسية ليست مسالة دساتير فقط.
هام جدا الدساتير. هام جدا القوانين. لكن هنالك تقاليد وأعراف وسنن سياسية -خاصة بكل بلد، ضروري أن تكون ضمن مجال الفعل السياسي.
الخسارة في الانتخابات البرلمانية تعني مباشرة حل البرلمان والعودة الى الناخب. يعني هنالك سنن، هنالك تقاليد، هنالك أعراف تُحتَرم، حتى وإن لم تكن واجبة من حيث الدستور ومن حيث القوانين.
المسألة الثانية وهي مسألة هامة وجوهرية، هي أن الانتخابات والعودة الى الناخب أمر أساسي في الديناميكية السياسية، وأن هذه العودة -سواء بالإستفتاء او بالإنتخاب-، ضرورية. وفي كل الحالات هي ضرورية، في معنى وجوب تحميل المسؤولية للناخب، وتحميل المسؤولية للمجتمع، وتحميل المسؤوليك للامة، او للشعب (وفق السياقات الخطاب)…
هذه مسألة ضرورية في الحالة الديمقراطية، وأقول هنا الحالة الديمقراطية لأن الديمقراطية ليست دائما على مسار مستقيم أو مسار أمثل. الديمقراطية يمكن ان تشهد تأزمات.
الديمقراطية، كما في الدستور الفرنسي، من المرونة بأن تقبل حالات يمكن فيها للحكومة أن تمرر مشروع قانون دون تصويت البرلمان. وهذه من الصيغ والمنافذ التي يحتوي عليها الدستور، داخل نص الدستور. وهي ليست بالضرورة صيغا ومنافذ ديمقراطية، لكنها تَعتَـبِرُ الظرفيات الخاصة، وتَعتَـبِرُ أيضا ما يمكن ان يضمن المصلحة الوطنية.
تمرير مشروع ميزانية مسالة حيوية، في ظرف قد تكون فيه المشهدية البرلمانية غير مؤاتية. لكن، في هذه الحالة، الدستور يكون قد ترك منفذا لصيانة المصلحة الوطنية.
علينا أن نفكّر، ولا بأس من أن نتعلم من كل هذا. في الاليات الفرنسية؛ الدستور الفرنسي، للجمهورية الخامسة (منذ 1958) اتخذ شكلا نصف برلماني نصف رئاسي، أي شكل نظام ليس بالرئاسي تماما… أراد هذا الدستور مع دوبري (Debré)
ودوقول (De Gaulle)
القطع مع حالة عدم الاستقرار التي عاشتها فرنسا خلال النصف الأول من القرن الماضي تحت الجمهورية الرابعة، حيث وصفت بكونها جمهورية الاحزاب او جمهورية ديكتاتورية الاحزاب.
عدم الاستقرار في النظام البرلماني للجمهورية الرابعة شهدته ايطاليا، كذلك، خلال ثمانينات القرن الماضي ولا تزال ايطاليا محكومة بالنظام البرلماني…
علينا أن نفكر في كل هذا، وعلينا أن نفهم ان المسالة الديمقراطية ليست فقط مسألة نصوص، ليست فقط مسألة دساتير. المسألة الديمقراطية هي أيضا مسألة اعراف، مسألة تقاليد، مسألة احزاب سياسية مسؤولة، وأحزاب سياسية معافاة من المشاكل، مثل مشاكل بقايا الثقافة الاقطاعية.
لكن وفي المقابل، التكتّلات المفارقة للمجتمع ولتحولات المجتمع لدينا، مع الاحزاب المنغلقة على ذاتها على شكل قبائل، لا يمكنها ان تُـنجِح أي مشروع ديمقراطي، مهما كانت النصوص متقدمة، ومهما كانت القوانين ضامنة للشفافية. لأنها ستعيد إنتاج نظم إجتماعية، وحلقة مغلقة من القيادات المتعفنة فكريا، والعقيمة ايضا سياسيا.