من صراع المقاعد إلى قوة المؤسسات.. الحوكمة هي الحل

بقلم د غادة محفوظ
لم تعد الخلافات التي تعصف ببعض الأحزاب المصرية مجرد شأن داخلي يمكن تجاوزه بسهولة، بل باتت علامة على أزمة أعمق في بنية العمل الحزبي نفسه. ففي أعقاب انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة، تصدرت المشهد خلافات علنية وتبادل اتهامات بين قيادات بارزة داخل أحزاب يفترض أنها تمثل صوت المعارضة. هذا السلوك، الذي جرى على الملأ عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يضر بصورة هذه الكيانات فحسب، بل طرح أيضًا سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن لأحزاب منشغلة بخلافاتها الداخلية أن تقنع الشارع بقدرتها على خوض انتخابات مجلس النواب المقبلة أو القيام بدورها السياسي الجاد؟
الحقيقة أن ما يحدث اليوم لا يعكس مجرد خلافات شخصية، بل يوضح غياب قواعد واضحة تنظم الأداء الداخلي وتضمن استدامة الأحزاب. فحين يصبح الصراع على المقاعد أو النفوذ أهم من بناء مؤسسات قوية، تفقد الأحزاب وظيفتها الأصلية وتتحول إلى لافتات بلا مضمون. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إصلاح أعمق، لا يقتصر على حل الأزمات الطارئة، بل يتجه إلى وضع إطار شامل يرسخ ما يمكن أن نسميه حوكمة العمل الحزبي.
مفهوم الحوكمة ليس شعارًا تنظيميًا، بل منظومة متكاملة تقوم على قيم الشفافية والمساءلة والمشاركة والعدالة والاستقلالية. هي القواعد التي تفرق بين حزب قادر على الصمود والتأثير، وآخر ينهار عند أول أزمة. الحزب الذي يفتقر إلى الشفافية في تمويله أو في آليات اتخاذ قراره، أو الذي تحتكره قيادة ضيقة لا تعرف التداول ولا تسمح بالمحاسبة، سرعان ما يصبح مجرد كيان شكلي بعيد عن الناس. وعلى العكس، فإن الحزب الذي يلتزم بتلك القواعد يكسب ثقة المواطنين، ويوسع من قاعدته، ويثبت أنه مؤسسة راسخة يمكن الاعتماد عليها.
الميثاق المقترح لحوكمة العمل الحزبي، والذي جرت مناقشته مؤخرًا في ورش نظمتها جمعية السادات للتنمية والرعاية الاجتماعية بمشاركة ممثلين عن أكثر من اثني عشر حزبًا، يمكن أن يمثل نقطة تحول مهمة. هذا الميثاق، إذا ما تم تبنيه طوعًا بين الأحزاب، سيوفر إطارًا مرجعيًا ينظم الممارسات الداخلية بعيدًا عن التدخل المباشر من الدولة، مع قيامها بدور الميسر والضامن.
الميثاق يقوم على خمس ركائز أساسية: الشفافية عبر إعلان البرامج واللوائح ومصادر التمويل بوضوح؛ المساءلة من خلال آليات لمحاسبة القيادات والأعضاء؛ المشاركة بإعطاء القواعد دورًا في صناعة القرار وضمان تداول القيادة؛ العدالة بتكافؤ الفرص ورفض التمييز على أساس النوع أو الدين أو الانتماء الجغرافي؛ وأخيرًا الاستقلالية التي تحصن القرار الحزبي من الضغوط وتجعله معبرًا عن الإرادة الوطنية.
قد يبدو الحديث عن الحوكمة تنظيريًا، لكنه في الواقع مسألة وجود. فالأحزاب التي لا تمتلك مؤسسات حقيقية ولا تخضع لمعايير واضحة لن تتمكن من أداء دورها في تمثيل المواطنين أو المشاركة الفاعلة في صنع السياسات. التجارب الدولية تثبت أن الديمقراطية لا يمكن أن تنمو إلا بوجود أحزاب قوية ومتماسكة، وأن ضعف هذه الأحزاب هو ما يفتح المجال أمام انكماش المشاركة السياسية وتراجع ثقة الناس.
إن تحويل الميثاق من مجرد فكرة إلى ممارسة فعلية سيكون خطوة محورية لإعادة ترتيب البيت الحزبي من الداخل، وتحويل الأحزاب من ساحات صراع على المقاعد إلى مؤسسات قادرة على التأثير وصناعة المستقبل. باختصار، الحوكمة ليست ترفًا تنظيميًا، بل هي الحل إذا أردنا حياة حزبية قوية تعكس طموحات المجتمع