جامعة الشجب والتنديد العربية

بقلم: ناصر السلاموني
أوجعني وأحزنني تصريح صادر عن أحد المسؤولين في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يندد ويستنكر “بأشد العبارات” ما أعلنه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو عن ما سماه “ميلاد إسرائيل الكبرى” وخططه لضم أجزاء من دول عربية مجاورة. البيان وصف الخطوة بأنها “تصعيد خطير” و”انتهاك صارخ للقوانين الدولية”، ودعا المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته والضغط على إسرائيل لوقف سياساتها الاستفزازية التي تهدد أمن المنطقة.
لكن ختام البيان جاء بما يثير الأسى ويميت ما تبقى فينا من نخوة عربية، حين اكتفى بالتأكيد على أن “الشجب والتنديد” يمثلان الموقف العربي الموحد، وأن الجامعة “تتابع عن كثب” مجريات الأمور. تلك العبارات الرتيبة أعادتني قسرًا إلى البدايات، إلى أربعينيات القرن الماضي، عندما كان الحلم أكبر من الواقع.ففي عام 1944، دعا رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا لاجتماع تحضيري في الإسكندرية، حضرته كل من (مصر والعراق وسوريا ولبنان والسعودية واليمن). وأسفر اللقاء عن توقيع بروتوكول الإسكندرية، الذي مهد لتأسيس جامعة الدول العربية رسميًا في 22 مارس 1945 بانضمام الأردن كعضو مؤسس سابع. كان الهدف المعلن فض المنازعات بين الدول العربية وحماية استقلالها، لكن الطريق الذي سلكته الجامعة لاحقًا كان بعيدًا كل البعد عن تلك الطموحات.
نعم فمنذ بدايتها، فشلت الجامعة في التعامل مع أخطر القضايا: حيث عجزت في عام 1948 عن منع قيام دولة إسرائيل، وانتهت النكبة بخسارة معظم فلسطين. ثم جاء عام 1967 ليسقط ما تبقى من الضفة الغربية وغزة والقدس تحت الاحتلال واحتلال الجولان وسيناء. وفي حرب الخليج 1990-1991 انقسم الأعضاء بين مؤيد للتدخل الأمريكي ومعارض له، ثم جاء غزو العراق 2003 واحتلال أمريكيا له لتكتفي الجامعة ببيانات الإدانة، كما فعلت في أزمات ليبيا واليمن وسوريا ولبنان.
وتراكمت إخفاقات لا تقل خطورة مثل:الفشل في إقامة (سوق عربية مشتركة )منذ الخمسينيات.
الفشل في إنشاء( جيش عربي موحد) رغم النص عليه في الميثاق.
الفشل في وقف (حصار الرئيس ياسر عرفات) بين 2002 و2004.
الفشل في( معاملة الفلسطينيين) كمواطنين عرب، حيث استمرت قيود الإقامة والعمل.
الفشل في تنفيذ( التعهدات المالية) المقررة لدعم فلسطين.
الفشل في مواجهة القرارات الأمريكية والأوروبية المنحازة لإسرائيل.
وعلى مدار تاريخها، عقدت الجامعة نحو( 33 مؤتمر قمة عربي) عادي حتى عام 2024، إضافة إلى قمم طارئة واستثنائية في أوقات الأزمات الكبرى. ورغم صدور قرارات ومبادرات مهمة — مثل مبادرة السلام العربية عام 2002 — فإن معظمها ظل حبرًا على ورق، بسبب غياب آليات التنفيذ وانعدام الإرادة السياسية الجماعية، مما جعل جدواها موضع تشكيك واسع لدى الشعوب.
اليوم، وبعد أكثر من سبعين عامًا على تأسيسها، يطرح الشارع العربي أسئلة وجودية: هل لا تزال الجامعة تمثل الشعوب، أم تحولت إلى منصة شكلية للحكومات؟ هل يمكن إصلاحها لتصبح أداة فاعلة، أم أن بقاءها بهذه الصورة لا يعدو كونه ديكورًا سياسيًا بلا مضمون؟
لقد ملّت الشعوب العربية بيانات “الإدانة” و”التنديد” و”المتابعة عن كثب”، فيما الواقع العربي يزداد ضعفًا وتشرذمًا. صار المبنى الفخم في قلب القاهرة شاهدًا على عقود من العجز، بينما في الجانب الآخر من البحر المتوسط، انطلق الاتحاد الأوروبي — الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وسط دمار شامل — ليحقق وحدة اقتصادية، وعملة موحدة، وحدودًا مفتوحة، وسياسات خارجية موحدة، وجيشًا أوروبيًا قيد التفعيل.بالرغم من اختلاف اللغات والأديان والجغرافيا والتاريخ؛ و نحن نمتلك اللغة والتاريخ والجغرافيا والدين المشترك، ومع ذلك لم نصنع سوى بيانات الشجب، بينما هم تجاوزوا الحروب الدامية ليبنوا كيانًا يحمي مصالحهم ويقف أمام العالم بثقة.
وأقواها صريحة إذا لم نمتلك إرادة حقيقية تعيد الروح إلى الجامعة، فربما يكون إعلان نهايتها أقل ضررًا من استمرارها كرمزٍ لعجزٍ بات عنوانًا للعصر العربي الحديث.