وجهة النظر العسكرية الصينية تجاه الإستهداف الإيرانى للقواعد العسكرية الأمريكية فى قطر والشرق الأوسط

تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشئون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
تنزعج الدوائر السياسية والإستخباراتية والأمنية فى العاصمة الصينية بكين من إنتشار القواعد العسكرية الأمريكية فى منطقة الخليج والشرق الأوسط، خاصةً مع التواجد العسكرى القوى الأمريكى فى المنطقة، مع كثافة القواعد العسكرية المنتشرة فى عدة دول خليجية، مثل: (قطر والبحرين والكويت). وترى الدوائر العسكرية الصينية، بأنه قد يؤدى التنافس العسكرى الصينى الأمريكى فى منطقة الخليج والشرق الأوسط إلى زيادة التوترات مع واشنطن فى المنطقة، خاصةً مع سعى الصين لزيادة نفوذها العسكرى بين العديد من الدول العربية والإسلامية والخليجية.
وتسعى الصين مؤخراً لإنشاء عدد من القواعد العسكرية فى الشرق الأوسط حفاظاً على مصالحها الإقتصادية المترامية فى المنطقة. حيث تسعى الصين لزيادة نفوذها فى المنطقة من خلال (مبادرة الحزام والطريق)، الت تشمل إستثمارات فى البنية التحتية والطاقة. فى الوقت الذى تعتبر الولايات المتحدة هذا النشاط الصينى بمثابة تحدٍ لنفوذها فى المنطقة. كما تسعى الصين أيضاً للمشاركة فى جهود حفظ السلام والأمن فى المنطقة، مما قد يؤدى إلى منافسة عسكرية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا السياق.
وتلعب إستثمارات البنية التحتية الحيوية للصين دوراً رئيسياً فى تعزيز الوجود الأمنى للصين فى منطقة الخليج والشرق الأوسط. حيث تشترط الصين أن يكون لدى المؤسسات الخاضعة لسيطرة الدولة فى قطاعات معينة القدرة على خدمة (الأصول العسكرية الصينية)، مما يؤدى إلى جدل حول ماهية (الخط الفاصل بين الوجود التجارى والعسكرى للصين لخدمة شبكة مصالحها فى الخارج). وهذا المزج بين المؤسسات التجارية الخاضعة لسيطرة الدولة والتواجد والنفوذ العسكرى للصين فى الوقت ذاته، والذى يشار إليه بـ “الإندماج العسكرى – المدنى”، يخلق معضلة فى الشرق الأوسط، إذ تتخوف الولايات المتحدة الأمريكية من أن تنامى الإستثمار الصينى فى الموانئ والمجمعات الصناعية، المخصصة فى الأساس لتنمية التجارة بين الصين وشركاؤها فى المنطقة وحول العالم ، أن يدعم أيضاً وفى الوقت ذاته من الأصول البحرية الصينية ويساعد الصين على توسيع وجودها العسكرى فى المنطقة.
مع الوضع فى الإعتبار، بأن الصين قد أنشأت أول منشأة وقاعدة عسكرية خارجية لها فى دولة جيبوتى عام ٢٠١٧، وتقع تلك القاعدة العسكرية للصين فى موقع إستراتيجى على بعد ١١٠ كم فقط من مضيق باب المندب، إلى جانب قناة السويس، والذى يعد شرياناً مهماً لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا. وحتى قبل إعلان الصين رسمياً عن إفتتاح قاعدتها العسكرية فى دولة جيبوتى، ضخت الشركات الصينية مليارات الدولارات فى جيبوتى لتطوير الموانئ، وبناء السكك الحديد والمطارات، وإنشاء منطقة تجارة حرة مترامية الأطراف. مما يعنى بأن نهج الصين فى جيبوتى هو سمة مميزة لما وصفه عدد من الخبراء العسكريين الصينيين ومراكزهم الفكرية، بأنه (المدنى أولاً ثم العسكرى). وبموجب تلك الإستراتيجية الصينية، إستثمرت الصين فى البنية التحتية للأغراض التجارية، ثم حولتها لاحقاً لدعم قواعد الجيش الصينى حول العالم. وهنا يصف الخبراء العسكريون الصينيون قاعدة جيبوتى بأنها بمثابة نقطة قوة إستراتيجية تساعد على تأمين طرق التجارة المهمة، وتعرف فى الصين بإسم (المحور الإستراتيجى) أو
(Zhànlüè zhīdiǎn) (战略支点)
وعلى الجانب الآخر، توسع الصين من تعاونها العسكرى مع بعض دول الشرق الأوسط عبر تحدى الصين للنفوذ العسكرى الأمريكى فى الخليج والشرق الأوسط وبيع المقاتلات الشبحية الصينية من (الجيل الخامس)، المعروفة بإسم (جى -٢٠)، لعدد من الدول الخليجية بعد رفض الولايات المتحدة الأمريكية بيع مقاتلاتها الشبحية من الجيل الخامس المعروفة بإسم (إف-٣٥)، خاصةً للإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر والبحرين، رغم عمل إتفاقيات سلام إبراهيمى مع دولة الإمارات، بدعوى الحفاظ على التفوق النوعى لإسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط، ومن أجل ذلك فقد إستغلت الصين تلك الثغرات الأمريكية لزيادة بيع مقاتلاتها الشبحية العسكرية لعدد من الدول العربية والخليجية، وعلى رأسها: الإمارات العربية المتحدة والسعودية، من خلال بيع الأسلحة الصينية المتقدمة لها وتدريب القوات الإماراتية والسعودية ثم المصرية عليها. وتعد مبيعات الأسلحة الصينية لدول الخليج والمنطقة بمثابة سمة أخرى من سمات التقدم الأمنى للصين فى المنطقة. فقد نجحت بكين فى إستهداف سوق (المركبات الجوية المسيرة المسلحة والمقاتلات الشبحية من طراز الجيل الخامس)، والتى باعتها بكين وصدرتها إلى كل من (الإمارات والعراق والأردن والسعودية ومصر والمغرب) بالاضافة إلى حليفتها باكستان، والتى إستخدمتها فى حربها الأخيرة ضد الهند.
أما عن تأثير تنامى الوجود العسكرى الأمريكى على النفوذ الصينى فى الخليج والشرق الأوسط، فتدعى الولايات المتحدة الأمريكية بأن مثل هذا التواجد العسكرى الأمريكى يعد حماية لمصالح بعض دول المنطقة من التهديدات الأمنية، ويساهم فى إستقرار المنطقة. فى المقابل، يعتبر الوجود العسكرى الأمريكى مصدر قلق كلاً من الصين وحليفتها إيران، حيث تنظر له، على أنه يمثل تدخلاً فى الشؤون الداخلية لتلك الدول عبر فرض وصاية أمريكية وعليها. وهنا قد يؤدى تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى تعقيد المشهد الأمنى فى المنطقة، خاصةً مع سعى كل دولة لتعزيز نفوذها فى مواجهة الأخرى. بإختصار، تتشابك المصالح الصينية والأمريكية فى الشرق الأوسط، ويتجلى ذلك فى التنافس الإقتصادى، والتعاون العسكرى مع بعض الدول، ومحاولات كل دولة لزيادة نفوذها فى المنطقة.
وعلى الجانب الإيرانى، جاء ضرب إيران لقاعدة (العديد القطرية) رداً على الإستهداف العسكرى الأمريكى لعدد من المنشآت النووية الإيرانية بعد بدء إسرائيل عدوانها على قطاع غزة، مفاجأة للعديد من المراقبين خاصةً القطريين، وتعد (قاعدة العديد الجوية القطرية) من أبرز القواعد الأمريكية فى الشرق الأوسط، حيث تقع جنوب غرب الدوحة. ويتمركز بها أكثر من ١١ ألف جندى أمريكى. وتكمن أهمية قاعدة العديد القطرية فى كونها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى منطقة الشرق الأوسط وتستضيف المقر الرئيسى للقيادة المركزية الأمريكية والقوات الجوية المركزية الأمريكية. وتلك الأسباب جاء الإستهداف الإيرانى لتلك القاعدة الجوية القطرية رداً على إستخدامها أمريكياً لتوجيه ضربات عسكرية منها نحو إيران.
وتعد المعارضة الصينية والإيرانية الحازمة للوجود الأمريكى فى الخليج، حاضرة فى العديد من التصريحات والبيانات للمسؤولين السياسيين والعسكريين الإيرانيين والصينيين على حدٍ سواء، ومع كل حادثة أو تصعيد أو أزمة تمر بالمنطقة، تخرج تصريحات إيرانية بدعم صينى مباشر، تشير صراحةً أو تلميحاً إلى الوجود العسكرى الأمريكى بإعتباره عامل لزعزعة الإستقرار فى منطقة الخليج، وأن دول الخليج قادرة على حفظ أمنها بنفسها، وبأن إيران سترد على أى تهديد يمثله هذا الوجود فى مواجهتها وبأن الصين ستحمى مصالح شريكتها الإيرانية. وعقب الغارات الأمريكية على عدداً من منشآت البرامج النووية الإيرانية، أطلق “على أكبر ولايتى” مستشار المرشد الأعلى الإيرانى “على خامنئى”، عدة تهديدات مفادها أن “إيران ستعتبر القواعد التي إستخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لضرب المنشآت النووية أهدافاً مشروعة، وبأنه لا مكان بعد اليوم للولايات المتحدة الأمريكية فى الشرق الأوسط”. وبشكل عام، يعود تاريخ الوجود الأمريكى العسكرى عبر قواعدها المنتشرة فى عدداً من الدول الخليجية ضمن شراكات إستراتيجية فى أعقاب حرب الخليج المعروفة بـ “عاصفة الصحراء” سنة ١٩٩١، حين قادت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً دولياً لإخراج القوات العراقية التى غزت الكويت، فوقعت عدة دول خليجية إتفاقيات دفاعية مع واشنطن خلال وبعد فترة الحرب. ونجد بأنه ليس من السهل تتبع الوجود الأمريكى فى الخليج بدقة، فهذا الوجود لا يقتصر فقط على القواعد العسكرية الثابتة، لكنه يشمل أيضاً السفن الحربية وحاملات الطائرات وغيرها، كما أن أعداد القوات ومهامها تتغير بشكل مستمر.
وتعرضت القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة فى الشرق الأوسط لخطر شديد وداهم منذ إندلاع الحرب على قطاع غزة، حيث تعرضت القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا، للقصف بطائرات مسيرة أعلنت عدة فصائل عراقية مسلحة مدعومة من إيران مسئوليتها عنها وتتهمها وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” بقربها من الحرس الثورى الإيرانى، كما تم إستهداف قاعدة أمريكية قرب مطار أربيل شمالى العراق، بطائرات مسيرة بعد حرب غزة مباشرةً. وأعلنت حركة (المقاومة الإسلامية فى العراق) فى بيان لها، بأنه: “إستمراراً بنهجنا فى مقاومة قوات الإحتلال الأمريكى فى العراق والمنطقة، ورداً على مجازر الكيان الصهيونى بحق أهلنا فى قطاع غزة، هاجم مجاهدو المقاومة الإسلامية فى العراق، قاعدة الإحتلال الأمريكى قرب مطار أربيل شمال العراق بالطيران المسير”. وحمايةً للمصالح العسكرية الأمريكية، قامت قوات الجيش الأمريكي بتعزيز شبكة دفاعاتها الجوية فى محيط (حقلى “العمر” النفطى وحقل “كونيكو” للغاز الطبيعى) فى العراق، عبر إضافة منطاد جوي للمراقبة فوق الأول، ونشر مضادات جوية فى محيط (قاعدة كونيكو). وفى محافظة دير الزور، أطلقت القوات الأمريكية التى تتخذ من (حقل العمر النفطى) أكبر قواعدها العسكرية اللاشرعية فى ريف محافظة دير الزور، منطاد مراقبة مجهز بتقنيات مراقبة عالية الدقة لكشف التحركات فى محيط القاعدة، إضافة إلى أجهزة تصوير فى محيطها. مع الوضع فى الإعتبار، بتعرض قواعد الجيش الأمريكى الموجودة فى محافظة ريف دير الزور شرقى سوريا، إلى هجمات متكررة من قبل (حركة المقاومة الإسلامية فى العراق)، والتي تبنت معظم الهجمات التى تأتى رداً على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وحتى قبل بدء المواجهة الأمريكية ضد المنشآت النووية لطهران، كانت هناك تصريحات إيرانية مدعومة إستخباراتياً وعسكرياً وأمنياً من قبل الصين، تصب جميعها بإتجاه التهديد بإستهداف القواعد الأمريكية فى المنطقة فى حال تدخلت واشنطن عسكرياً على إثر تعثر محتمل للمحادثات النووية بين الطرفين، حيث صرح وزير الدفاع الإيرانى “عزيز ناصر زاده”، بأنه: “لدى طهران القدرة على الوصول إلى كل القواعد الأمريكية فى البلدان المضيفة لها فى المنطقة، وبأنه فى حال إستهداف هذه القواعد ستضطر الولايات المتحدة إلى مغادرة المنطقة”. وحتى قبيل التدخل الأمريكى ضد إيران، تعهد المرشد الأعلى الإيرانى “آية الله على خامنئى” بالرد على الولايات المتحدة الأمريكية إذا دخلت الحرب، مصرحاً بأنه: “على الأمريكيين أن يعلموا أن أى تدخل عسكرى أمريكى سترافقه حتماً أضرار لا يمكن إصلاحها”.
وبناءً على التحليل السابق، نجد بأنه مع إشتداد حدة التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على الصعيد العالمى والإقليمى، وصلت أصداء هذا التنافس بينهما إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث ترفض الصين وبشكل متزايد الإعتماد حصرياً على مظلة الأمن الأمريكية في المنطقة.