غادة محفوظ تكتب : سحابة داكنة تخيم على العالم

التوتر الجيوسياسي: سحابة داكنة تخيم على العالم
يشهد عالمنا المعاصر تصاعداً ملحوظاً في التوترات الجيوسياسية، تلك الحالة المعقدة والمليئة بالديناميكيات المتغيرة التي تنذر بتقويض الاستقرار العالمي وتهدد بتصعيد النزاعات والصراعات. لم يعد التوتر الجيوسياسي مجرد خلافات ثنائية بين دولتين، بل أصبح شبكة متشابكة من المصالح المتضاربة، والتنافس على النفوذ والموارد، والاختلافات الأيديولوجية والثقافية التي تمتد آثارها لتشمل مختلف أنحاء الكوكب.
تتعدد مظاهر هذا التوتر وتتنوع أسبابه. فمن جهة، نشهد صعود قوى دولية جديدة تسعى لتأكيد مكانتها ونفوذها على الساحة العالمية، مما يخلق حالة من عدم اليقين بشأن موازين القوى التقليدية. يترافق ذلك مع تراجع نفوذ بعض القوى الكبرى القديمة، الأمر الذي يزيد من حدة المنافسة على مناطق النفوذ والموارد الاستراتيجية، سواء كانت اقتصادية أو جغرافية.
من جهة أخرى، تلعب الأزمات الإقليمية دوراً محورياً في تغذية التوتر الجيوسياسي. فالصراعات المستمرة في مناطق مختلفة من العالم، والتي غالباً ما تتداخل فيها مصالح دولية وإقليمية متنافسة، تتحول إلى بؤر لعدم الاستقرار تهدد بجر قوى أخرى إلى أتونها. كما أن التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول، بذريعة حماية المصالح أو نشر الديمقراطية، غالباً ما تأتي بنتائج عكسية وتزيد من الاحتقان الإقليمي والدولي.
ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة في تأجيج التوتر الجيوسياسي. فالفضاء الإلكتروني أصبح ساحة حرب جديدة، حيث تتنافس الدول والجماعات على نشر المعلومات المضللة والتأثير على الرأي العام وتقويض الأنظمة. كما أن سهولة انتشار الأخبار، سواء كانت صحيحة أو زائفة، تساهم في تأجيج المشاعر القومية والعداوات بين الشعوب.
للتوتر الجيوسياسي تداعيات خطيرة على مختلف الأصعدة. فعلى الصعيد الأمني، يزيد من خطر نشوب صراعات مسلحة، سواء كانت تقليدية أو غير تقليدية، ويقوض جهود نزع السلاح والحد من الانتشار النووي. وعلى الصعيد الاقتصادي، يؤدي إلى حالة من عدم اليقين في الأسواق العالمية، ويعيق النمو الاقتصادي، ويؤثر سلباً على التجارة والاستثمارات الدولية. أما على الصعيد الاجتماعي والإنساني، فيزيد من معاناة الشعوب ويؤدي إلى تفاقم أزمات اللاجئين والهجرة.
في مواجهة هذا التصاعد المقلق للتوتر الجيوسياسي، يصبح التعاون الدولي والحوار البناء ضرورة ملحة. لا يمكن لدولة بمفردها أن تواجه هذه التحديات المعقدة. يتطلب الأمر تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، والالتزام بمبادئ القانون الدولي واحترام سيادة الدول، وإيجاد حلول سلمية للنزاعات والخلافات من خلال المفاوضات والحوار.
إن تجاوز حالة التوتر الجيوسياسي الراهنة ليس بالأمر اليسير، ولكنه ليس مستحيلاً. يتطلب ذلك إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، ونهجاً يقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالمصالح المشتركة، والسعي نحو بناء نظام عالمي أكثر عدلاً واستقراراً وازدهاراً للجميع. إن تجاهل هذه السحابة الداكنة التي تخيم على عالمنا قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، بينما العمل المشترك لمواجهتها هو السبيل الوحيد نحو مستقبل أكثر أمناً وسلاماً.