بين أمواج القهر ورمال الصمود.. رواية أحمد سليمان العُمري
في تلك البقعة التي عانقت البحر، وترعرعت بين الصخر والصبر، وقفت الأخت العربية الجريحة تحمل في قلبها أثقال الدهر وجراح الأيام، تنظر صوب السماء، حيث لا تُمطر سوى القهر، كقطرات الندى فوق جراحها النازفة من مآسي الدهر.
كانت هناك وحدها، بين أنينها وصمودها، كأنَّ كُلّ ذرّة تراب تعاتب الأمّة، وكل حجر يئن محاكيا خذلانا عتيقا. وحدها تقف، تنزف من جراح الزمن، تشهد حكايات من خانوها وغادروا، تنتظر يدا تمتد إليها، أو كلمة تُحيي فيها نبضا من أمل تلاشى. طال الانتظار، وثقل الوجع كصخرة «سيزيف»، وكأن الغيوم هنا لا تمطر سوى الدموع.
أمّا إخوتها، فكأنّهم قلاع من صمت وجدران من الجفاء، كلٌّ يقف بعيدا، ينظر ثم يُشيح وجهه خشية أن تلامس عينيه ألمها. تذرّعوا بحجج واهية، كمن يحتمي بورق الخريف تذروه الرياح، أتقنوا لعبة الصّمت ودور المُتفرّج؛ يختبئون خلف ستائر الغفلة. لم يكترثوا لما أثقل كاهلها أو لما انكسر من قلبها، بل اكتفوا بتبرير البعد، وترديد أعذارا شاحبة ليقنعوا أنفسهم ببرود مُخجل.
ومع كُلّ هذا، لم تفقد الأخت الأمل بعودة أحدهم؛ سيعود يوما حاملا في قلبه دفئا وبيده سلاحا، يُغنيها عن ليال طالت كظلام «المعرّي»، مازالت تنتظر، شاهدة على خذلانهم وعجزها عن نسيانهم.
كان هناك أخٌ كبير، شامخ كالجبل، كالريح صرصر عاتية، كان أول من تتذكّره عند اشتداد الأزمات، لعلّه يأتي، لكنّه وقف ينظر من بعيد، كأنّما بينه وبين خطواته قيود نسجها العجز والغربة. حاولت أن تسترق من صمته نغمة حنين وذكرى تزيح عنها وطأة الانتظار، صوته الخافت جاء مأسورا خلف ستار من الحيرة:
يا أختاه، صبركِ صبر الجبال الرواسِ،
لم أبتعدْ، فأنا أخوكِ عمودُ الأساسِ،
لكن يديَّ تئنُّ من ثقلِ القيودِ،
كالرمل إذ يمتدُّ في ليلِ البأسِ
تردّد صوته في وجدانها كأصداء متلاشية في بحر وجعها؛ أحسّت أن صوته لا يصل إلى قلبها، كأنما شبحٌ يحاول عبثا أن يُسليها، لكنّها كانت تحتاج لأكثر من كلمات. أرادت أن تمتد خطواته إليها، لا أن يظلّ الصدى خلف الجدران.
أما الأخ الأقرب، الذي ظنّه الناس درعها وسندها، فقد بدا عاجزا كقلب يخشى أن يُجرح؛ كانت عيناه تتوهّجان أحيانا، لكنّه يتردّد، كأنّ سدودا تقف بينه وبين الاقتراب. ينظر إليها من مسافة كالسراب دون أن يخطو، ويردّد همسا كناي ضائع يبحث عن ألحانه المفقودة:
يا أختاه، قلوبُنا تشتكي وتُصدَعُ،
وألمك يسري في ضلوع من أسى،
تبقين في القلبِ، يا لحنَ الشجَن،
لكنَّ خطانا تتوارى، والصدى يتوجّعُ
كلماته تُدوي كصدى في أروقة الوجدان ثم تتبدّد، كشبح حلم عتيق. حاولت أن تتشبّث بأمل واهن أعجف. انسلّت كلماته كالدخان، وتركتها أمام صمت مُطبق لا أُفق له.
وأما الثالث، ذو الهيبة يأخذه الزهو؛ يقف بينه وبينها فضاء مليئا بالفراغ، يحيط نفسه بهالة من القوة ولا يقترب؛ يرنوها بأعين كالزجاج خالية من أي تعبير، مكتفيا بإحساس العظمة يعتريه، وقال بصوت كالسيف بحدة وهمية:
يا أختاه، أنتِ النجم في الغياهب،
وأنا الدرع الذي يدرأ عنكِ النوائب،
لكنني مشغولٌ بأمر هنا،
وحين أعود، تجدين النصر كالواجب
كانت كلماته رماحا تخترق الصمت وتتركه مُمزّقا كالبلاء، تُغلّفها قسوة العبارات وتخفي وعودا باهتة لا تُداوي الضرّاء. كانت تعرف أن صوته لا يحمل صدقا، كأنّه مرثية تُخبئ خلفها أملا تائها في صحراء.
وفي الجانب الآخر، وقف أخٌ صغير، عيناه تلمعان بالوفاء، أقربهم إليها، يحاول مسح دمعها بالولاء، لكنّه مكبلٌ بعجزه، قال بنبرة حائرة، يختلط فيها القصور والإحباط والبكاء والرجاء:
يا أختاه، ما نفعُ القلبِ إذ يشتهي قربَكِ،
إن كانت يدي مكبّلة والقلبُ في حبّكِ،
يا زهرةَ الروحِ، يا لحنَ الهوى،
لكنَّ الخوف يُثني خطاي في طلبك
وأما الصغار؛ أولئك الأوفياء، فقد وقفوا حولها، كالأعمدة الصغيرة الصلبة التي تحاول تثبيت بنيانها، ناظرين إليها بعزم يملأ عيونهم، وقالوا بصوت واحد:
يا خالتي، عهدٌ لا ينكسرُ، ووفاءٌ ثابتٌ،
نحنُ الأوفياءُ وإن جارَ القدرُ،
سنظلُّ في وجهِ العدا صامدين،
فلا نخشى ظلاما، ولا ننكسرُ
كان وعدهم بلسم لجراحها، كأنّ خطواتهم الصغيرة كانت تُثبّت جذورها في الأرض من جديد. شعرت أنّ هؤلاء الصغار، دون غيرهم، هم من يحملون نبضها وشُعاع أملها لبناء بيتها وشدّ عضد بنيها، فأصواتهم الصافية تحمل عهدا لا تقوى رياح الغرب الطامعة على صدّه من حجم الوفاء.
كانت تتلفّت ذعرا، تسمع أصوات الصواريخ والدبابات تملأ السماء، تقتلع من الأرض كل ثبات، وتشعر بأن يدا غادرة تحاول اقتلاع الأمل من قلبها، وتُهدّد سلام أطفالها، كأنما يريدون قتل روحها ودفن أبنائها في رمال العزّة والنسيان.
وفي وسط هذا الجحيم، كان صوتها يُسمع وينقله الرياح ليصل إلى العالم أجمع؛ جُلّه منافق، كما لو أنّ الأرض تنطق بالحق كأهلها، أملا بتحقيق العدالة المفقودة.
تعاود تهمس بكلمات عجزت عن قولها، تَشقُّ الطريق بين الألم والأمل الضائع؛ تبتسم رغم الجراح، تُحّدق في الأفق، وتفكّر: كيف للموت أن يكون أقرب إلى الحياة؟ وكأنّ الحياة أصبحت حلما مجرّدا عزيز المنال، يموت تحت ضمائر الإنسانية المعدومة والنار والدمار.
وفي النهاية، أدركت أن هناك من يقف عند الخط الفاصل، لا يخشى الظلام ولا ينحني للعواصف مهما اشتدت؛ هناك من يظلّ صامدا من أبنائها كالصخر؛ بطلا عنيدا جلدا صنديدا، يصدُّ عنها قنابل الغدر وبارود التخاذل، كأنّه صوتٌ يناديها بعهد لا يموت ولا ينقضي؛ يحيى كالشهداء من جديد:
لا تخافي يا زهرةَ هاشم،
يا شوكة الأعداء،
يا أمل الأمناء،
نحن الحصن المتين،
وإن عزَّ الناصر، لنا فيكِ العيون،
سنظلُّ هنا، ولو أثقل الدهرُ،
فالمجدُ لا يزول، والجُرحُ لا يهونُ
حينها، وسط هذا الصدى، عرفت أنّ ميثاقهم بالإيمان والثبات صادق أكيد، كالنجم الثاقب؛ مهما تاهت الدروب أو ثقُلت الخُطى راسخ حتى الوعد المجيد.
لم يكن صمتها سوى شهادة على ضياع الهوية العربية، ونفاق الأمّة الإسلامية وإجرام الأنظمة الحقوقية الغربية، وزيف الشعوب الإنسانية. لم يكن خلفها إلّا عواصف الإسناد العتية، كانت عهدا مدويّا من الشمال والجنوب وهيجان العجاج والرسائل البحرية؛ خلفها النفوس الأبيّة، وإن بعُدت وفيّة تتوشّح العزّ والبندقية.