قضيّة الشّرق الأوسط (1) المآلات
بقلم – الدكتورة ايمان قاسى
كباحثة في تخصّص علم اجتماع الأديان، يهمّني القيام بعمليّة تفكيكيّة كمحالة لاستيعاب الوضع الحالي بالشّرق الأوسط؛ ولذلك ارتأيت أن أخصّص سلسلة مقالات من أجل القضيّة، كلٌّ منها يتناول شقّا معيّنا لا يقلّ أهميّة عن سابقه. فحاليّا لعلّه يجب الالتزام بشيء من الواقعيّة لفهم ما هو كائن بغية التّفكير في الّذي يجب أن يكون؛ لأنّنا نعيش بوادر نكبة جديدة للأسف الشّديد، وهذا في ظلّ غياب مشروع حضاري جديد.
نعلم جيّدا أنّ الّذي ألقى على عاتقه سابقا مسألة استرداد أرض فلس.طين هو المشروع القومي العربي، فانخرط التيّار الاشتراكي في حروب نظاميّة عدّة تضافرت فيها الجهود ضدّ العدوّ انتهت بالفشل للأسف، وقد خلّف الأمر ارتدادات كوجود كياناتٍ وهميّة لا سُلطة تذكر لها حتّى وقت الأزمات على غرار الجامعة العربيّة ومختلف الاتّحادات الصوريّة الّتي لم يعد أصحابها يؤمنون بها باعتبار أنّ ذلك المشروع أساسا تدحرج إلى الوراء.
بالتّالي، أتى المشروع الإسلامي كبديل، وسعى إلى تحقيق المَرام بالمُتاح، إنّما تعرّض إلى الحصار من القريب والغريب، من الأخ والعدوّ، وكان ذلك السّبب المباشر فيما شهدناه؛ إذ ترفضه الحكومات مبدئيّا، على الأقلّ تلك المتاخمة لأرض فلس.طين، ما عدا حالة لبنان الّتي سآتي إلى ذكرها، ضف إلى ذلك الحصار المتعدّد الجوانب الّذي فرضه العدوّ الصّه..يوني على غزّة منذ زمن ليس بالقريب.
وهنا، قد يَحِلُّ التّساؤل، هل كان الأمر محسوبَ العواقب لدى المقا..ومة ؟
إنّ أهمّ فكرة يجب استيعابها هي دور التطوّر التّكنولوجي في تغيير المفاهيم وحتّى في تقرير إمكانيّة البقاء ! فإلى جانب قضيّة الحصار الّتي لم تترك منافذا أخرى، أظنّ أنّ القراءة يجب أن تشمل، بالدّرجة الأولى، مسألة احتضار المقا..ومة أمام التطوّر الهائل والمتسارع للتقنيّة لدى الجهة المقابلة؛ ما يعني أنّ الانتظار لسنواتٍ أُخر يعني حتمًا تلاشي الحُلم أمام حضور الرّجل الآلي؛ بحيث لن يتوقّف الأمر على المسيّرات الّتي بدخولها تكون البشريّة قد أدركت إرهاصات الجيل السّادس من الحروب.
تِبعا لذلك، لابدّ وأنّ العمليّة كانت تراهن على ثلاثة أمور رئيسيّة: أوّلها، اقتصار المسألة على محاولة استعادة الرّهائن الموزّعين على الق.طاع والجلوس إلى طاولة المفاوضات لفكّ الحصار المفروض على السّاكنة، ثانيها، انخراط مختلف الأذرع كما شاهدنا، وثالثها طرح أوراق ضغط على العدوّ بخلق ارتجاجات على شتّى الأصعدة من اقتصاديّة وسياسيّة وأمنيّة وغيرها.
كانت ردّة الفعل شنيعة كما كان متوقّعا، إلى جانب صمت عربي ودولي رهيب ممّن أجهزوا على الأمر قبل ومنذ بدايته، ما عدا بعض الدّول المعدودة المعروفة بمواقفها الثّابتة تجاه القضيّة الّتي لجأت إلى إسماع صوتها عاليا لدى الهيئات الدوليّة الكبرى، وكذا بعض الدّول الّتي عمدت إلى قطع علاقاتها مع الكي..ان، دون إغفال دور الشّعوب الشّريفة عبر مختلف أنحاء العالم في تحريك الرّأي العامّ ومحاولة الضّغط على الحكومات لإيقاف الإ.بادة الممنهجة، وكذا بعض المبادرات الّتي هدفها تفادي بعض النّتائج المحتملة.
فرغم فظاعة ما شاهدناه منذ أزيد من سنة، صمتت كافّة القوانين في الحرب، على حدّ قول الفيلسوف الرّوماني شيشرون، لدرجة أنّ الهيئات الإنسانيّة ذاتها لم تجد سبيلا لنفسها قبل غيرها.
هنا نصل إلى لبنان الّذي لم ينخرط كدولة وإنّما كجيش شبه نظامي يبدو أنّه أكثر تطوّرا من النّاحية التكنولوجيّة من الجانب الّذي عانى الحصار، فضلًا عن تاريخه النّضالي الطّويل مثله مثل المق..اومة الفلس..طينيّة نظرا لاشتراكهما في المأساة التاريخيّة الّتي سبّبها وجود الك..يان الّذي نخر أوصال الأمّة.
لن أتحدّث عن الّذي يحدث في لبنان لأنّه بادٍ للعيان، وإنّما سأختصر الأمر بالتطرّق إلى جُملة استشرافات.
وبالتّالي، نصل الآن إلى مسألة المآلات..
*تكمن أهمّ نقطة في عدم وجود أدنى بوادر لنشوب حرب أهليّة في لبنان، وهو الأمر الوحيد الإيجابي اليوم؛ فهذا ليس فقط لأنّ الشّعب المغلوب على أمره لا يودّ ذلك، إنّما لأنّ غالبيّة الجهات الّتي تسبّبت في أزماته سابقا لن تَرِدَ منها هذه المرّة رنّة الهاتف تلك كما تعوّدت، بل نراها تتسابق محاولةً وقف العدو.ان سعيا منها لاقتسام الكعكة في صمت؛ لأنّ مواصلة الكي..ان واستفراده بالقرار يعني ضياع نفوذها كليّة في المنطقة.
*أيضا، تلعب الاستراتيجيّة المستقبليّة لدول الخليج المطبّعة السّبب الرّئيسي والمباشر في نزوعها إلى إخماد النّار؛ وهنا تبرز قضيّة تقاطع مصالحها ذاتها، ولكن لدافع جوهري يقف وراء تغيير موازين القوى، ناهيك عن التوجّهات والإيديولوجيّات ذاتها.
فبربط الاجتماعي بالاقتصادي والسّياسي ندرك ما نسمّيه في علم الاجتماع بالتّغيير بالمكوّنات؛ إذ أنّ رؤية دول الخليج للمستقبل القريب تقتضي توفّر الأمن في المنطقة واستتباب الأمور بُغية نجاح مشروعها الّذي يقتضي الاستعاضة عن النّفط بالسّياحة كمورد اقتصادي ومثاله رؤية بن سلمان لسنة 2030 وخطّة التّنمية الشّاملة الّتي ترتكز على اقتصاد خدماتي سياحي لدرجة تخصيصه ميزانيّة 500 مليار دولار فقط لإنشاء مدينة عملاقة لوحدها، كما نجد بعض مؤشّرات التوجّه الجديد في مذكّرات الشّيخ بن زايد، وهو ليس خيارًا؛ لأنّ دخول المكوّن الجديد إلى السّوق والمتمثّل في “السيّارة الكهربائيّة” سيُحدث بعد سنوات انهيارا محتوما في أسعار النّفط نظرا لنقص الطّلب عليه. ولذلك، نجدهم يرومون القضاءَ على فكرة المق..اومة وتفادي بوادر نشوب حرب عالميّة جديدة؛ الأمر الّذي يفسّر أيضا التّقارب الدّبلوماسي الّذي نجده بين السعوديّة وإيران الّتي لطالما ودّت فرض ورقة ضغط للخروج من الحصار الاقتصادي المفروض عليها منذ زمن ليس بالقريب.
بالتّالي، ونظرا لمقتضيات الظّروف الرّاهنة، لن نستغرب كثيرا لو وجدنا تلك الاقطاب الثّلاثة المتمثّلة في دول الخليج وإيران وأمريكا تجلس إلى طاولة المفاوضات؛ وربّما ستلعب دول الخليج دورا فاعلا في ذلك؛ فمثلما يقول نابليون بونابرت: “الحرب كما الحبّ، لكي ينتهي أمرها لابدّ من مقابلة مباشرة”.
تِبعا لِما أسلفنا، قد تبدو مآلات الإنسان عبثيّة أو “على كفّ عفريت” كما يُقال، لنتساءل إن كان الإنسان هو من يتحكّم في التقنيّة الّتي أنتجها أم أنّها هي الّتي ترسم إمّا حياته أو موته، ليس فقط بلسان الحرب، بل بمنطق نمط عيشه قُدُمًا.
*وتفصيلا في مآلات لبنان، لابدّ من الرّجوع قليلا إلى الوراء لفهم واقعه المعقّد؛ إذ يبدو أنّ مشاكله الداخليّة أكبر من تلك الخارجيّة؛ لأنّ عجزه عن حسم مسألة السّلطة يعكس تماما ما تفضّل به رئيسه السّابق ميشال عَون في عدم إمكانيّة إدارة دولة بثلاثة رؤوس مع ضرورة إحداث تغييرات بنيويّة في النّظام اللّبناني بإصلاح سيادي؛ لنرسوَ هنا عند مشكلة الطائفيّة الّتي جعلت قوانين الدّولة تساوي بين المواطنين في إطار الطّائفة وليس الوطن، علاوة على انخراط هذا النّظام الطّائفي في مختلف عُصب الحياة، مُضافا إليها مسألة التبعيّة إلى الخارج.
إنّ المتمعّن في طبيعة التديّن بالشّرق الأوسط عموما سيتوصّل إلى أنّها ظاهرة يرتبط فيها الدّين أو الطّائفة بالعِرق؛ ولذلك تتّصف هويّاته بنوع من الحساسيّة والخصوصيّة الّتي تجعل الأمر لا يتوقّف عند حدود الدّول، فلا تغدو الهويّة مكوِّنا موحِّدا ومُحقّقا للتّماسك الدّاخلي كما هو الحال في باقي أرجاء العالم. ومنه، يبرز التّفكير بوعي ما قبل الدّولة الّذي يحُول دون تحقيق الديمقراطيّة وفعاليّة المؤسّسات؛ هذا على الصّعيد الدّاخلي.
*وإزاء الخارج، يطرح الأمر تحدّيا آخرا؛ لأنّ إعادة تشكيل السّلطة خارج الأُطر التقليديّة لابدّ وأن يصطدم بنفوذ بعض الدّول على شاكلة فرنسا الّتي تبحث حاليّا عن دور محوريّ يتواءم مع أهميّة صفة رئيس الدّولة بلبنان. وعلى هذا النّحو، يُمسي السّعي إلى تحقيق قرار مركزي وإرساء نظام مدني لا طائفي رهانًا حقيقيّا تتطلّبه قوّة التّغيير من الدّاخل، ولكن أيضا ارتقاءً معيّنا في الزّمن الاجتماعي والثّقافي، وهو أمر أخالُه متوفّرا، لأنّ وعي اللّبناني قبل اتّفاق الطّائف ليس بمثل وعيه اليوم؛ خاصّة الفئة الشبابيّة. ومن جانب آخر، قد تكون آخر تجربة عاشها ويعيشها هذا البلد، والآفاق المستقبليّة للبعض، السّبب المباشر في اتّفاق الدّاخل والخارج على تحقيق ذلك كحلّ مباشر، على أن تؤول التّرِكة إلى الجيش اللّبناني.
*أمّا عن قط..اع غزّة، وبالنّظر إلى النّتائج بعد سنة من المق..اومة، يبدو أنّ الأمر سيؤول إلى زعامة السّلطة المركزيّة بالض.فّة الغربيّة، باعتباره الخيار الّذي صار يخدم الجميع في تلك المنطقة، ويأتي هذا من منطلق الوقائع والنّتائج للأسف؛ لأنّ السّياسة في مفهومها هي فنّ الممكن وليست فنّ المستحيل.
في الأخير، وأمام المآلات المطروحة تبعا للظّروف، يضحى العالم العربي والإسلامي في وضع لا يُحسد عليه لدخوله مرحلة التّيه الحضاري الّذي يستدعي التّفكير في مشروع جديد لتصفية الاس.تعمار. فالمفروض بالأكاديميّين البحث عن مكامن الخلل لإدراك حلٍّ للأزمة والنّجاح في قضيّة تعني الجميع وفعل شيء أمام مأساةً حقيقيّة لشعب منذ قرابة قرن من الزّمن من الاستيطان والتّهجير والتّقتيل؛ ومن ثَمّ المساهمة في خلق أفكار نوعيّة تحقّق الخلاص الفعلي، وصراحة أندهش من بعض المقالات العاطفيّة الّتي تكتفي بالشّجب والنّدب ويكتبها دكاترة وبروفيسورات عرب من “خبراء” هذا العصر الّذين يشغلون أعلى المناصب في مراكز البحوث العربية والغربية عوض التحليلات العلميّة الموضوعيّة والاستراتيجيّة، في حين أنّهم المطالَبون أكثر من أيّ شخص آخر بخلق البديل للخروج من عنق الزّجاجة إن كانوا فعلا يودّون خدمة القضيّة.
الموضوع القادم سيتناول: ” قضيّة الشّرق الأوسط -2- إعادة بلورة المفاهيم”.
إيمان