د. رحاب حنفي شمس الدين تكتب : رؤية الصين للحوكمة العالمية
في ظل تعاظم التحديات المعقدة والمتشابكة التى يواجهها النظام العالمي، طرح القائد الصيني شي جين بينغ رؤية شاملة للحوكمة العالمية بملامح اقتصادية وسياسية وصحية وبيئية، فبعد أزمة كورونا، استشعر الجميع أن الأزمات البيئية والصحية أصبحت عابرة للحدود مخلفة ورائها كثير من التحديات الأمنية والإقتصادية والسياسية.
وقد روجت الصين لرؤيتها حيال النظام العالمي من خلال سياستها الخارجية، ودبلوماسيتها الاقتصادية ودبلوماسيتها الثقافية، وذلك من خلال تأسيس بعض المؤسسات الاستثمارية والمالية، مثل: البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وبنك التنمية الجديد.كما سعت الصين إلى تعزيز رؤيتها حيال النظام العالمي الجديد عبر إقامة علاقات صداقة ومنفعة مشتركة بينها وبين الدول تقوم على استثمارات ضخمة وعلاقات شراكة عادلة.
فعلى الصعيد الاقتصادي، أكدت الصين في رؤيتها على أهمية”بناء اقتصاد عالمي منفتح، وحماية النظام التجاري متعدد الأطراف مع وجود منظمة التجارة العالمية في صميمه ( حول الحكم والإدارة – شي جين بينغ – المجلد الرابع صـ 198) وبناء اقتصاد عالمي منفتح يقوم على الربط بين التنمية الاقتصادية ورفاهية الشعوب، مع التأكيد على الأبعاد البيئية والصحية.
وفي الشق البيئي، تزايدت في السنوات الأخيرة موجات الجفاف والحر الشديد ما أثرعلى الأمن الغذائي، وقد أدى التدهور البيئي لملايين من الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء وسوء الأحوال الجوية، ولا ننسى مقولة فردريد إنجلز: “علينا ألا نغالى في تقدير انتصاراتنا على الطبيعة، فهي تنتقم منا عن كل انتصار نحرزه”، لذا أكد الرئيس الصين شي جين بينغ على التمسك بالحياد الكريوني والاهتمام بالتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة.”هناك عدد متزايد من الأنشطة البشرية تلامس حدود الأيكولوجيا الطبيعية باستمرار، فلا بد من الحفاظ على الخدود الدنيا لسلامة الطبيعة، والتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة، مع الاسراع في تنفيذ منظومة المحميات الطبيعية، وتحسين شبكة التنوع البيولوجي.” (حول الحكة والإدارة – شي جين بينغ – المجلد الرابع صـ 406) .
وفي الشأن الصحي، لم يستبعد الرئيس الصين أن تتكرر حالات الطوارئ والأزمات مثل وباء كورونا، لذا يجب تعزيز الحوكمة العالمية للصحة العامة بإلحاح، وفي هذا السياق، طرحت الصين رؤية بانورامية تتمثل في “طريق الحرير الصحي”، وذلك كجزء لا يتجزأ من مبادرة الحزام والطريق عملًا على تحسين الخدمات الصحية وتوفير البنية التحتية الصحية في البلدان الواقعة على طريق الحرير الجديد .
وفي المجال الأمني، أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ في الكثير من المحافل الدولية إلى ضرورة حوكمة الأمن العالمي، رغبةً في أن ينعم العالم بالسلم والأمن على الرغم من المشهد العالمي المضطرب، وتقوم الرؤية الصينية في المجال الأمني على القضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية ودعم الجهود الدولية لتحقيق المزيد من الاستقرار الدولي، وقد حددت هذه الرؤية 6 مبادئ رئيسية، وهى: الالتزام برؤية للأمن المشترك والتعاون المستدام، الالتزام بإحترام سيادة ووحدة أراضي جميع الدول، الالتزام بالمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، والإلتزام بالتعامل مع المخاوف الأمنية المشروعة لجميع الدول على محمل الجد، والإلتزام بالحل السلمي للخلافات بين الدول والقائم على الحوار والتشاور.
وفي سياق الأمن المعلوماتي، فمع تطور تكنولوجي غير مسبوق لتدفق الأفكار وتبادل المعلومات، ما أسهم في التمتع بحرية الرأى وحرية التعبير، إلا إن هذا التطور مثل في بعض المجتمعات أداة لتأجيج الصراعات بين أبناء الأمة الواحدة، مما هدد أمن الأفراد واستقرار بعض الدول، تلك الجرائم المعلوماتية تؤثر على مسار التنمية وتنعكس سلبًا على حياة المجتمعات البشرية، وفي الوقت الذى يحاول الاقتصاد العالمي التعافي من كبواته بعد وباء كورونا، يبدى الكثير من محللي الأمن السبراني قلقهم من إحتمالية زيادة الجرائم الإليكرتونية والهجمات السيبرانية بخسائر قد تتجاوز 10.5 تريليون دولار أمريكي سنويًا.
مما سبق نرى أن رؤية القيادة الصينية حيال الحوكمة العالمية ليست أفكار نظرية، بعيد عن التطبيق، بل هى رؤية متكاملة ذات طبيعة تطبيقية وتنفيذية، حيث تقوم الرؤية الصينية في الأساس على اخراج الاقتصاد العالمي من أومته الحالية، وتحقيق الإنعاش الاقتصادي، علاوة على رفض “التجيز الإيدلوجي” عبر رفض إدعاء خصوصية أو أفضلية حضارة ما أو أيدلوجية ما، والتأكيد في الوقت ذاته على خصوصية كل أمة على الصعيد الثقافي والأيدلوجي.”لكل دولة ميزة في تاريخها وثقافتها ونظامها الإجتماعي، لا تتفوق دولة على دولة أخرى، المهم هو أن يتفق نظامها الإجتماعي مع ظروفها الوطنية، ويلاقي دعم الشعب ويسهم في الاستقرار السياسي والتقدم الإجتماعي وتحسين مستوى الشعب” (حول الحكم والإدارة – شي جين بينغ – المجلد الرابع صـ 537).