شوارع الخرطوم… جثث على الأسفلت ومقابر في الأرصفة

 

منذ زمن ليس بالبعيد كانت العاصمة السودانية تشدو بأغنيتها الأثيرة “يا جمال النيل والخرطوم بالليل”، ففيها تصنع الحكايا بمزيج من الخيال والواقع إلى أن اندلع الصراع الأخير في أبريل (نيسان) الماضي، فتحولت إبداعات الفن والثقافة إلى ساحة حربية ومقبرة لدفن الجثامين بمعدلات كبيرة، بعد أن خلف القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع مئات القتلى، لكنها مفارقة حقيقية حولت المدينة العريقة إلى مدينة أشباح، ولم يعد الناس يتغزلون فيها أو يغنون لها.

القذائف وطلقات الرصاص لم تترك حتى الجامعات والمنازل التي تحولت هي الأخرى إلى مقابر، فخلال الأيام الأولى للاشتباكات المسلحة اضطرت إدارة جامعة الخرطوم إلى دفن أحد طلابها، وهو خالد الطقيع، داخل الحرم الجامعي بعد تعثر نقل جثمانه إلى بيته الذي لا يبعد كثيراً، ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة، إذ صدمت واقعة دفن متخصصة التخدير ماجدولين يوسف غالي وشقيقتها طبيبة الأسنان ماجدة في حديقة منزلهما المجتمع السوداني بعد تعذر نقل الجثمانين إلى المقابر.

وفي المقابل دفن أشخاص آخرون في بيوتهم بسبب صعوبة نقلهم أثناء احتدام المواجهات، ومن بينهم الممثلة السودانية الشهيرة آسيا عبدالماجد التي أعلنت أسرتها دفنها في مقر مؤسستها التي ماتت داخلها.

دفن بلا هوية

أرغم القتال المستمر في الخرطوم ودارفور المتطوعين على دفن 180 قتيلاً انتشلت جثثهم من مناطق القتال من دون التعرف على هوياتهم، إذ دفنت 102 جثة مجهولة الهوية في مقبرة الشقيلاب بالعاصمة و78 جثة أخرى بمقابر إقليم دارفور.

وقتل أكثر من 1800 شخص منذ تفجر الصراع المسلح في الـ 15 من أبريل الماضي، وفق مشروع بيانات مواقع النزاع وأحداثها، وقال مسعفون ووكالات إغاثة مراراً وتكراراً إن عدد القتلى الحقيقي من المرجح أن يكون أعلى من ذلك بكثير، لوجود جثث في مناطق لا يمكن الوصول إليها.

صعوبات وعقبات

وفي هذا الصدد يشير منسق الإعلام بمنظمة الهلال الأحمر السوداني هيثم إبراهيم يوسف إلى أن “المتطوعين وجدوا صعوبة في التنقل عبر الشوارع لانتشال الجثث بسبب القيود الأمنية، وعلى رغم تلك العقبات تمكنوا من دفن 180 قتيلاً”، منوهاً بأن “فريقهم تقدم شمالاً في محلية الخرطوم حتى منطقة أبو حمامة مروراً بضاحية الأزهري والسوق المحلية ومحيط مول عفراء حتى وصل العدد في جبل أولياء والخرطوم إلى 102 جثة”.

وأوضح يوسف أن “وقف إطلاق النار عندما يكون جاداً من الطرفين بالفعل ونحصل على الضوء الأخضر للتنقل في أمان إلى المناطق الأكثر تضرراً من المعارك، فإننا نتمكن من تغطية المنطقة بتعبئة أوسع نطاقاً”.

ويتابع مسؤول الهلال الأحمر أن “إدارة الجثث تتم عبر فرق الطوارئ المدربة على العمل في المنظمة بدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وفي ولاية الخرطوم تمكن الفريق من دفن 102 جثة، وكذلك 42 جثة في إقليم شمال دارفور، و19 أخرى في الغرب، أما جنوب الإقليم فدفنت 17 جثة”.

ويعتقد المنسق الإعلامي أن “وجود ممرات آمنة يساعد في انسياب العمل بشكل فعال، ويمكّن الوصول إلى كل الجثث في الخرطوم، وبالتالي إنقاذ العاصمة من كارثة بيئية محتملة حال تحلل كثير من الجثامين”، منوهاً إلى أن “المنظمة تقدم للمتطوعين أزياء وقائية وتجهيزات لجمع وحفظ الجثامين بسلامة”، ولافتاً إلى أن “فريق عمل الهلال الأحمر تبقت له بعض المناطق في محلية بحري وأحياء في الخرطوم سيصلها قريباً”.

نشاط المتطوعين

إزاء هذا الوضع نشط عدد من المتطوعين بالعاصمة الخرطوم في إدارة الجثث ودفنها، وفي محاولة لعمل آلية لجمع القتلى من الطرقات والمواقع المختلفة، تبث بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الرسائل التي تنبه الناس إلى ضروة إعلام المتطوعين بأماكن الجثامين في كل الأحياء عبر الاتصال بأرقام الهواتف المرفقة على الصفحات المتخصصة بموقع “فيسبوك” من أجل الوصول إليها وتشييعها.

أحد المتطوعين ويدعى عماد عمر قال إن “العدد ليس كافياً لتغطية كل مناطق العاصمة، ونقوم بجولة في محلية ما ومن ثم ننتقل إلى أخرى، ونتقدم بهذه الطريقة في حال هدوء الأوضاع القتالية، كما توجد صعوبات لعدم وجود أي ممثل لإدارة المحليات لكي يمنح فريق العمل التراخيص اللازمة للدفن”.

جهود مستمرة

وعبر عمر عن قلقه من خطورة التحرك في ظل استمرار المعارك الحربية مما “يعرض حياة المتطوعين للأخطار والموت”.

وناشد المتطوع في إدارة الجثامين ودفنها طرفي الصراع بضرورة “فتح ممرات آمنة تمكن المتطوعين والمنظمات من الوصول إلى كل الجثث ودفنها قبل أن تتحلل وتهدد العاصمة الخرطوم بكارثة بيئية”.

واتفق الطرفان المتحاربان في محادثات وقف إطلاق النار بمدينة جدة الشهر الماضي على تمكين الجهات الفاعلة الإغاثية، مثل الهلال الأحمر السوداني واللجنة الدولية للصليب الأحمر، من جمع الموتى وتسجيلهم ودفنهم بالتنسيق مع السلطات المتخصصة، ولكن بفعل الانتهاكات المتكررة من كلا الجانبين انهار اتفاق الهدنة الذي توسطت فيه السعودية والولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى