فن النحت المصري
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
تبارى أجدادنا الفراعنة في تخليد أدق التفاصيل في حياتهم الدنيا والآخرة … مستعينين في ذلك بناصية فن النحت مسلحين بتطورهم العلمي ، وأناملهم الحريرية، وتفوقهم الحضاري فمن المعروف أن فن النحت والحضارة شيئان متلازمان دوما وجودا وعدما …. فلولا فن النحت ما عرفنا عن حضارة أجدادنا شيئا … وما رأينا لها آثارا شامخة حتى اليوم تتحدى قوانين الزمن ……. شاهدة على تاريخ وعظمة وأمجاد هذا الوطن ، ولولاهما معا –إضافة لعوامل أخرى– ما سادت مصر الفرعونية الشعوب وما قادت الأمم .. وما استحقت مصر العربية التفرد والريادة بقوتها الناعمة حول العالم بأسره حتى أصبح اسمها نارا على علم وهذا قليل من كثير للتعريف بهذا الفن الراقي العظيم … الذي يقوم على التناغم والانسجام والتوازن العام …. والتأثير المتبادل مع الأجواء العامة والبيئة المحيطة ، وتتمتع مخرجاته بالقوة والصمود والهيمنة ، وتتميز بالهيبة والشموخ والجمال ودقة تفاصيل الألوان وتقييمه على هذا النحو لا مغالاة فيه …. بل هو حق وواجب على كل مصري أصيل ، إذ يكفي أنه أحد الفنون الرائدة التي عرفها الإنسان المصري منذ نشأته البدائية الأولى …. حيث تعود بداية فن النحت إلى العصر الحجري القديم منذ حوالي 150 ألف سنة ق.م ، والدليل على صحة ذلك ما عثر عليه علماء الآثار من عينات متنوعة ، من الأواني والأدوات والأسلحة منحوتة بدقة متناهية ….. على الأحجار والأخشاب والعظام بأيادي مصرية ماهرة .. وهذا معناه تاريخيا بمنتهى البداهة أن فن النحت أقدم من الكتابة .
وبالمناسبة الكتابة أيضا –شأنها في ذلك شأن النحت والعمارة والتحنيط– صناعة مصرية خالصة ، فالمصري القديم هو أول من اخترع الكتابة ، ووضع لها أبجدية فريدة من نوعها حيث جمعت بين الفن والعلم والأدب ….. وهو أول من أمسك بالقلم ، وأول من صنعه من نبات غاب النيل …… وخط بيده حروفا مضيئة انتشلت البشرية من براثن الجهل والتخلف والظلام ووضعتها على الطريق الصحيح …. فوصلت إلى ما هي عليه الآن من تقدم وعلم وازدهار ومازالت حروف المصري القديم حتى هذه اللحظة شاهدة على عبقريته وعظمة وتاريخ حضارة بلاده …. كما تقول إحدى الدراسات المتخصصة التي صححت معلومات تاريخية كانت سائدة بلا قرينة …. وما أثبتته بعض الحفريات الحديثة التي غيرت قناعات موضوعية كانت قائمة على غير الحقيقة لعقود طويلة .
والحقيقة لم يكن القدماء المصريون أول من عرفوا فن النحت فحسب …. بل تربعوا على عرش المبدعين في هذا المجال ، كما تربعوا –من قبل ومن بعد– على عروش المجالات الأخرى … وإن كان فن النحت أخذ جانبا كبيرا من اهتماماتهم … ربما لأن هذا الفن كان مرتبطا لديهم بالعقيدة … فمن المعروف أن الأمة المصرية هي أول أمة عرفت الوحدانية وآمنت بالخالق قبل ظهور الأديان السماوية ….. وبغض النظر عن اسم ذلك الإله أو كنهه فالعبرة هنا متعلقة بتفرد الأمة المصرية .. المبدعة بطبيعتها ، المفكرة بالفطرة …… حيث فكرت في طبيعة الكون ، وتدبرت نظامه …. ودرست ظواهره ، ورصدت حركة كواكبه ونجومه ….. فأدركت أن هذا الكون لم يوجد صدفة ، ولا يعمل عبثا ….. بل لابد أن يكون وراءه قوة خارقة …. إلى أن اهتدت إلى وجود الخالق فآمنت به وأقرت بوحدانيته وآمنت بالبعث والحساب والخلود … ومن هنا ارتبط اختراع الأمة المصرية لفن النحت وإبداعها فيه بهذا الشكل الذي لا مثيل له في الوجود بقضية البعث وفكرة الخلود، وذلك باعتبار أن الحياة الدنيا لدى الفراعنة –كما جاء في كتاب الموتى– ما هي إلا مقدمة للخلود بسلام في الحياة الأبدية ، ولا يفصل بينهما إلا الموت والبعث والحساب كحلقات متصلة منفصلة في سلسلة الحياة المتكاملة .. وهكذا كان يؤمن الفراعنة …. إذن الحضارة الفرعونية حضارة مؤمنة وليست حضارة كافرة أو وثنية أو عفنة كما يدعي الجهلة .
وما تقدم ذكره إلا حقائق تاريخية مستقرة في وجدان المصريين .. وما الفرعونية إلا هوية متأصلة في نفوس أبنائهم جيلا بعد جيل، إلا قلة قليلة متطرفة لا تؤمن بالوطن ولا تفهم في الدين ، ولا تعنيها مقدرات هذا الشعب العظيم في قليل أو كثير، وهذا ليس غريبا على هذه الشرذمة المتخلفة التي تروج لثقافة صحراوية دخيلة على مجتمعنا، ولا تمت لبلادنا النيلية بأية صلة … ولا هدف لها إلا تعطيل مسيرة الإصلاح والتطوير والتنمية ، والعودة بنا إلى أيام الجاهلية الأولى ، ولا هم لها إلا تزكية نفسها والتشكيك في إيمان هذه الجموع الغفيرة من المسلمين الذين لا قدوة لهم إلا خاتم الأنبياء والمرسلين …… الذي قال حينما هاجر إلى المدينة مخاطبا مكة “والله إنك لأحب البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت” الملاحظ هنا أن النبي (ص) لم يخاطب الكعبة أو الحرم …. بل خاطب مكة الوطن (السكن والشجر والتراب والحجر)، نعم هذا هو تعريف الوطن بالمفاهيم الفقهية للقوانين الوضعية الحديثة …….. هذا هو الوطن الذي يحبه هذا الشعب العظيم بمسلميه ومسيحيه وينتمي إليه ويضحي في سبيله ويدافع عنه بكل ما أتي من قوة .. وهذا معناه أن النبي (ص) كان يحب تراب وطنه وينتمي إليه بينما هذه الفئة الضالة تكره وطنها ولا تنتمي إليه ولا تقيم له وزنا حيث لا يزيد في نظرها عن كونه “حفنة من تراب عفن” ، وبهذا يتضح لنا أن النبي (ص) هو قدوة هذه الجموع الغفيرة ومثلها الأعلى … وبمفهوم المخالفة ليتنا نعرف من قدوة هذه الفئة الضالة المضللة ؟ .
وليس أدل على ذلك من التصريحات المستفزة، التي أدلى بها بعض رموز تلك الجماعات المارقة …. عقب ثورة 25 يناير الشعبية الخالدة التي نعتوا فيها الحضارة الفرعونية مرة بالكافرة ومرة بالوثنية والثالثة الأخرى بالعفنة، مستغلين في ذلك الانفلات الأمني والفراغ السياسي الذي حدث في تلك الفترة .. فتعاملوا مع هذه الدولة العظيمة كما لو كانت فريسة حيث وبمنتهى البجاحة والوقاحة طالبوا بتغطية التماثيل المنتشرة في الشوارع والساحات والميادين بالأقمشة حتى لا يفتتن بها الناس ويأتي عليهم يوما فيعبدوها !! .. فأصابت تلك التصريحات الفجة المصريين بالصدمة والإحباط والخيبة وأثارت حالة من الجدل والبلبلة خوفا من أن تكون هذا التصريحات مقدمة لهدم الآثار كما فعلت طالبان .. إذا وصلت تلك الجماعات الجاهلة إلى السلطة .
والأسئلة التي تطرح نفسها هنا بقوة هي .. هل رموز هذه القلة أكثر إيمانا من عمر !! … أتقى أهل الأرض ، وأكثرهم خشية من الله، وأشدهم كرها للوثنية، وأكثرهم حرصا على سلامة العقيدة الإسلامية ؟ ….. لا شك أن الفاروق رضي الله عنه وأرضاه –وقد فُتحت مصر في خلافته– لو رأى أن الناس ستفتتن يوما ما بشواهد الحضارة الفرعونية .. لأمر بتحطيمها فورا .. لكنه لم يفعل !! .. أليس هذا دليلا قاطعا على أن هذه القلة لديها فساد في العقيدة وانحراف في التصور وتبني أحكامها دائما وأبدا على الشكوك والظنون وما خفي كان أعظم ؟ …. إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فعلا .. إذن هل نحن في حاجة إلى تجديد فكري وثقافي وديني ؟ .. هل نحن في حاجة إلى محمد عبده .. عصري ؟ .. ينير الطريق لهذه الجماعات الجاهلة، ويصحح لها العقيدة، ويقيم عليها الحجة .. كي تستفيق من غفلتها وتعود إلى رشدها …….. خصوصا بعدما جف الينبوع المالح الذي شربت منه حتى ارتوت –بإيعاز من قيادة السبعينيات فأضرت العباد وشوهت هوية البلاد– حيث نضب مصدره ، وفقد تأثيره …… بعدما استنار محيطه ….. وأصبح بضاعة عفا عليها الزمن بفعل التنوير والتطوير والتغيير الذي حدث هناك مؤخرا …… فلا يُعقل أبدا أن يشفى المنبع مما أصابه تماما بينما المصب ما زال عليلا !! .
لكن إذا كان فن النحت بهذه الأهمية ، ومخرجاته التاريخية مهددة بالتخريب والتدمير من قبل أعداء الوطن وأعداء الدين .. إذن لماذا هذا الإهمال الرسمي في عصرنا الحالي لهذا الفن التاريخي ، متمثلا في مخرجاته الحديثة من التماثيل المشوهة من حيث التصميم ، أو الطلاء ، أو الترميم المنتشرة على مستوى الجمهورية التي أقامتها الدولة تكريما لرموزنا الوطنية وتخليدا لذكراهم العطرة ؟ .. نذكر من هذه التماثيل المشوهة على سبيل المثال لا الحصر دون ترتيب أو تعقيب …. تمثال الزعيم احمد عرابي بمسقط رأسه في قرية رزنة بمحافظة الشرقية .. وتمثال رفاعة الطهطاوي في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج ، وتمثال الفنان محمد عبدالوهاب في حي باب الشعرية بمحافظة القاهرة ، وتمثال عباس العقاد في أكبر ميادين الحي الذي يحمل اسمه بمحافظة أسوان ، وتمثال أم كلثوم في ميدان أبو الفدا بحي الزمالك بمحافظة القاهرة .
وإذا كان إضفاء روح العصر ورسم ملامحه على جبين الأوطان يعد من أهداف مخرجات فن النحت في هذا الزمان بالإضافة إلى بعث روح البهجة والجمال والارتقاء بالذوق العام إذن كيف ارُتكبت هذه الجرائم المستمرة ولم ينتبه إليها أحد من المسئولين في الدولة ؟ .. أما آن لهذه الحكومة المتقاعسة … أن تهتم بفن النحت الذي نفخر به بقدر فخرنا بحضارة أجدادنا الفراعنة ؟ … ثم ألم يكن فن النحت السبب الرئيسي في خلود هذه الحضارة التي يتهافت عليها السياح من شتى أنحاء المعمورة ؟ .. أين المسئولين في الدولة ؟ .. ثم أين التلفزيون الرسمي والإعلاميين والقنوات الخاصة ؟ .. أين المتخصصين والكتاب والنخبة وأين المفكرين ونواب الأمة ؟ .. أين طلاب العلم وأساتذة الجامعة ؟ .. أين هؤلاء جميعا من هذه القضية الوطنية الهامة ؟ .. لماذا هذا الصمت المريب على هذه الكارثة التي تبدو وكأنها مؤامرة ؟ … ومع ذلك لم نسمع على أثرها صدى اللهم باستثناء بعض المحاولات المتواضعة التي لا تروي غليلا ، ولا تقوم معوجا ، ولا تشفي عليلا فلم نر مثلا تصريحا لأحد المسئولين في الدولة يعتذر فيه للمصريين عن هذه المهزلة ويؤكد على عزم الدولة على التحقيق في هذه الكارثة وتقديم المتورطين في ارتكاب هذه الجرائم المهينة للمحاكمة ولم نسمع صوتا للصفوة ولم نقرأ لها نقدا أو اعتراضا أو حتى مطالبة من خلال القنوات المشروعة بوقف هذه المهزلة التي لم تنجُ منها أية محافظة .
أما الأسئلة التي لا تقل أهمية عما سبق فهي … متى تتوقف هذه الحكومة عن انتهاج مثل هذه السياسات العشوائية في إدارة الملفات الهامة التي تؤثر إلى حد كبير سلبا أو إيجابا على قطاع السياحة ؟ .. إذ كيف تسمح الحكومة بترك الحبل على الغارب للمحليات في تزيين الشوارع والميادين في القاهرة والمحافظات .. بما يتراءى لموظفيها –الذين تحوم حولهم الشبهات– من أفكار منفردة غير مدروسة دون أي تنسيق أو رقابة أو تخطيط أو متابعة ، أو رؤية سياسية حاكمة ؟ .. فكان نتيجة لهذه الفوضى ما نراه من مناظر بشعة لوثت أبصارنا وأساءت إلى رموزنا وتاريخ بلادنا وحاضر ومستقبل أبناءنا .
فلماذا لا تضع الحكومة خطة عامة لهذه القضية الوطنية الهامة ؟ على أن تجعل أعمال الفنان الراحل مصطفى جاب الله …. حجر الزاوية في التصور الفني للتماثيل والنصب التذكارية المطلوبة ….. ولمن لا يعرف الفنان مصطفى جاب الله ……. هو شيخ النحاتين الموهوب بالفطرة ……… الذي عُرف بقدرته الفائقة على تحويل الحجر إلى أثر في أيام معدودة …. ابن قرية بهنسا بمحافظة المنيا ……. الحاصل على الشهادة الابتدائية القديمة ومع ذلك حير الخبراء والمتخصصين بأعماله الفنية الفريدة .
ولابد من الاستعانة في إعداد وتطبيق الخطة المنشودة …. بالمتميزين في هذا المجال من أمثال الدكتور جمال صدقي …. الذي قام بالتصميم الرائع لرأس الملكة نفرتيتي .. والفنان منير باخوم .. الذي شق طريقه نحو المجد منفردا ، واثق الخطوة يمشي ملكا .. خبير فن الرسم على الفخار والخزف والمعادن الصلبة … صاحب الأعمال الفنية الساحرة ، التي تحظى بإقبال كبير بين سياح أوربا ، والوطن العربي من طنجة إلى الدوحة …. ومع ذلك يعكف هذا الفنان العبقري على أعماله في صمت ….. ليس له في البروباغندا ، ولا يحب الظهور الإعلامي …….. رغم أنه بلا أدنى مبالغة يعتبر في مجاله امتدادا طبيعيا لأجدادنا الفراعنة .. والدكتور محسن سليم …… الذي قام بنحت تماثيل للزعيم جمال عبدالناصر ، والزعيم عمر مكرم ، والدكتور مجدي يعقوب ، واللاعب محمد صلاح ….. ومن ثم تُوكل لهم الحكومة مهمة طلاء وتصميم ، ورسم وترميم …. مجسمات مآثرنا القومية ، وتماثيل رموزنا الوطنية .. بما يليق بمكانتنا التاريخية في الشوارع والميادين والمنشآت الحكومية على مستوى الجمهورية .
وفي الختام أقول بلا أدنى مجاملة ونحن على أبواب الانتخابات الرئاسية التي من المتوقع أن يكتسحها الرئيس عبدالفتاح السيسي بجدارة، نظرا لما يتمتع به من صبر وحكمة وقوة تحمل جبارة لمسناها في العديد من الأزمات التي اجتازها باقتدار تحت شعار قوة الحكمة وحكمة القوة ، بالإضافة إلى ما يتمتع به من شعبية كبيرة .. بالرغم من الأزمة الاقتصادية الحالية … نعم مصر ولادة هذه حقيقة لا ريب فيها ، والمؤسسة العسكرية مليئة بالقيادات المؤهلة لتحمل المسئولية ، لكن الرئيس عبدالفتاح السيسي .. صاحب المشرعات القومية العملاقة هو أصلح القادرين في هذه المرحلة الخطيرة ، وأقدر الصالحين لتولي مهام هذه المسئولية الكبيرة .
لذلك أتمنى أن نرى بين المشاريع القومية القادمة ، خلال الدورة الرئاسية الثالثة للرئيس عبدالفتاح السيسي .. مؤسسة تعليمية غير تقليدية مؤسسة ذات مواصفات خاصة ، ونظم تعليمة مغايرة .. مهمتها الأساسية احتضان المواهب النادرة في المراحل العمرية المبكرة من المبدعين في هذا الفن الراقي العظيم …. وليُطلق عليها أكاديمية الفنان محمود مختار تكريما للفنان الراحل الذي لقي ربه في عنفوان شبابه سنة 1934 م عن 43 عاما أعادنا خلالها بأعماله الرائعة إلى أمجاد وعظمة أجدادنا الفراعنة ، ولم يسع للتقدير الرسمي بل كان التقدير الفني والشعبي هو غايته الأولى والأخيرة …….. ولمن لا يعرف الفنان محمود مختار هو صاحب الرصيد الهائل من الأعمال الفنية النادرة …… التي خرجت بفن النحت المصري الحديث للعالمية لأول مرة في تاريخنا المعاصر من خلال المعارض التي أقامها في الخارج فأبهرت العالم شرقا وغربا ……. ووقف أمامها الجميع على أطراف أصابعهم احتراما وتعظيما وإجلالا، والتي توجها بتمثال نهضة مصر تعبيرا عن يقظة مصر متمثلة في الفلاحة المصرية أم الأجيال التي أقامت النهضة وهي تعانق أبو الهول رمز الحضارة فاستحق عن جدارة أن يطلق عليه أول مثال مصري منذ عصر الفراعنة .