“القاعدة الروسية” بالسودان.. جولة جديدة من الصراع بين موسكو والغرب
بين مد وجزر.. هكذا حال الحديث عن القاعدة العسكرية الروسية المأمولة على ساحل البحر الأحمر شرقي السودان ضمن صراع مع الغرب على مناطق النفوذ في إفريقيا، لا سيما في هذا الممر الاستراتيجي.
فبعد جولة من الصمت، عاد مشروع القاعدة البحرية إلى الواجهة السياسية والإعلامية في ظل جولة لوزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” شملت عدة عواصم إفريقية، بينها الخرطوم.
ويبدو السودان، الذي يعاني أزمات سياسية واقتصادية طاحنة، ساحة لصراع بين موسكو والغرب، وفق مراقبين، بينما يذهب آخرون إلى أن الخرطوم تلعب بورقة القاعدة لجني أكبر مكاسب ممكنة.
ومع جولة لافروف في القارة السمراء، امتدت إلى الساحة الإفريقية حدة الصراع الروسي الأمريكي الأوروبي في ظل حرب روسية مستمرة منذ نحو عام في أوكرانيا المدعومة من الغرب.
ويتمتع السودان بساحل على البحر الأحمر يمتد على مسافة تتجاوز 700 كلم، ويوجد عليه ميناء بورتسودان وهو الميناء الرئيسي للبلاد ومنفذ بحري استراتيجي لدول مغلقة ومجاورة منها تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان.
كما يمثل السودان أهمية لمساعي كل من الولايات المتحدة وروسيا للحفاظ على مصالحهما في مناطق حيوية تتسم بالاضرابات، حيث يقع بين القرن الإفريقي والخليج العربي وشمال أفريقيا.
تفاصيل القاعدة
بداية حديث القاعدة كان في مايو/ أيار 2019، عندما كشفت موسكو عن بنود اتفاقية وقَّعتها مع الحكومة السودانية آنذاك لتسهيل دخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين.
وتنص الاتفافية على إقامة منشأة بحرية روسية قادرة على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية واستيعاب 300 عسكري ومدني.
ويمكن للقاعدة استقبال أربع سفن حربية في آن واحد، وتُستخدم في عمليات الإصلاح وصيانة وإعادة الإمداد والتموين لأفراد أطقم سفن البحرية الروسية على البحر الأحمر، بهدف “تعزيز السلام والأمن في المنطقة”، وفق موسكو.
وفي 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، صادق الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على الاتفاقية، وفي 9 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه نشرت الجريدة الرسمية الروسية نص الاتفاقية.
غموض سوداني
على خلاف خطوات موسكو الرسمية والمعلنة، بدت مواقف الخرطوم من الاتفاقية غامضة ومترددة وكأنها، وفق مراقبين، تناور بالقاعدة الروسية في علاقاتها مع الغرب الذي يرفض، وإن لم يعلنها رسميا، إنشاء مثل هذه القاعدة، ولاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
فعقب عودته من موسكو، في 2 مارس/ آذار الماضي، قال نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان “محمد حمدان دقلو (حميدتي)” إن بلاده ليس لديها مشكلة مع روسيا أو أي دولة أخرى فيما يتعلق بإقامة قاعدة على ساحل البحر الأحمر، لكنه اشترط “أن لا تشكل تهديدا للأمن القومي”.
وفي 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قال رئيس مجلس السيادة قائد الجيش الفريق “عبد الفتاح البرهان”: “لدينا اتفاقا مع روسيا من ضمنه إنشاء قاعدة بحرية، ولدينا ملاحظات نحتاج إلى إزالتها (قبل التنفيذ).. ملتزمون بالاتفاقيات الدولية وسنمضي في تنفيذ الاتفاق حتى النهاية”.
أما رئيس أركان الجيش “محمد عثمان الحسين” فأعلن في 2 يونيو/حزيران 2021 أن بلاده بصدد مراجعة الاتفاقية العسكرية مع روسيا، بما فيها القاعدة العسكرية.
وبخصوص عدم تنفيذ الاتفاقية، قالت الحكومة السودانية، في 12 يوليو/تموز 2021، إن إنشاء القاعدة الروسية جزء من “اتفاقية وقَّعتها الحكومة السابقة، لكن لم تتم المصادقة عليها بعد من المجلس التشريعي (البرلمان)”.
ولا يوجد برلمان في السودان منذ أن أطاحت قيادة الجيش، في 11 أبريل/ نيسان 2019، بالرئيس آنذاك عمر البشير (1989-2019)، تحت ضغط احتجاجات شعبية على تردي الأوضاع الاقتصادية.
بانتظار البرلمان
مع زيارة “لافروف” للخرطوم، الأربعاء والخميس الماضيين، عاد مشروع القاعدة الروسية إلى الأضواء، لاسيما وأن هذه الزيارة تزامت مع أخرى قام بها وفد غربي في ما بدا، بحسب متابعين، جولة جديدة من الصراع على النفوذ في البحر الأحمر.
وبعبارة مقتضبة ربما تعكس عدم تحقيق اختراق في الملف، قال “لافروف” الخميس إن موسكو في انتظار موافقة البرلمان في السودان على إنشاء القاعدة البحرية.
ومقابل تصريح “لافروف” بشأن القاعدة، اكتفت البيانات الرسمية السودانية بشأن اجتماعاته مع مسؤولين سودانيين بالقول إنها تناولت القضايا الثنائية الاقتصادية وقضايا دولية ذات اهتمام مشترك.
قطع الطريق
وفي تزامن مع زيارة لافروف كان لافتا وربما كاشفا، أجرى ستة مبعوثين غربيين من الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مباحثات مع مسؤولين سودانيين.
المعلن أن هذه المباحثات ركزت على تطورات العملية السياسية لإنهاء الأزمة في السودان، لكن مراقبين سودانيين ذهبوا إلى الوفد الغربي حاول بالتأكيد قطع الطريق على موسكو بشأن إقامة القاعدة البحرية.
ويعاني السودان، منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، من أزمة سياسية حادة جراء إجراءات استثنائية فرضها “البرهان” وأبرزها: حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين وإقالة الولاية (المحافظين) وإعلان حالة الطوارئ.
وهي إجراءات اعتبرها الرافضون “انقلابا عسكريا”، بينما قال البرهان إنها هدفت إلى “تصحيح مسار المرحلة الانتقالية”، وتعهد بتسليم السلطة عبر انتخابات أو توافق وطني، وذلك في ظل أزمة اقتصادية واضطرابات أمنية واحتجاجات مناهضة لـ”العسكر” مستمرة منذ أكثر من عام وقتل فيها ما لا يقل عن 122 شخصا.
مليارات الدولارات
وعقب إجراءات البرهان، علَّقت واشنطن وبروكسل ومؤسسات التمويل الدولية مساعدات وتمويلات تنموية للسودان بمليارات الدولارات وأوقفت تعهدات بشطب الجزء الأكبر من ديونه البالغة 64 مليار دولار، وربطت استئناف تلك التمويلات والتعهدات بعودة مسار الحكم المدني وخروج “العسكر” من السلطة.
وفي ظل تنافس روسي غربي، يبدو “البرهان” وفريقه أمام خيارين: إما رفض إقامة القاعدة الروسية والسماح بعودة الحكم المدني مقابل مساعدات محتملة بمليارات الدولارات وتخفيف أعباء الديون، أو التحالف مع موسكو وإغضاب الغرب وربما البقاء في السلطة.