الحملة الألمانية ضد مونديال قطر العربية
دوسلدورف/أحمد سليمان العمري
مع قرابة إنتهاء التحضيرات النهائية لمونديال قطر، وقبل أيام فقط من وضع اللمسات الأخيرة له؛ تزامنت هجمة ألمانية ودعوات لمقاطعة كأس العالم، أو بالأحرى التجييش له؛ الشيء الذي لم يلفت نظر المراقبين العرب فحسب، إنما الألمان أيضاً، فقد كثرت السجالات المنتقاة في الداخل الألماني حول هذه الجزئية تحديدا؛ قلّة يرفضون المقاطعة والسواد الأعظم من الساسة والإعلام يروّجون الأكاذيب لهذه الحملة الحقوقية المخدوعة، التي بدت أعراضها غريبة وتطورها أسرع من رغبة الشارع، هذا مع تعامل نائب المستشار الألماني «روبرت هابيك» بإزدواجية مع الدوحة؛ محاولة منه للحفاظ على حسن العلاقات مع الأمير تميم بن حمد آل ثاني.
التصريحات غير المقبولة
تفاعلت قطر مع الهجمة الألمانية غير المبرّرة، وأعلنت الجمعة 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 استدعاء السفير الألماني في الدوحة رفضا للتصريحات غير المقبولة المستهجنة والمستفزة في آن للشعب القطري والعرب عامّة، مرفق بمذكرة احتجاج على بيان أدلت به وزيرة الداخلية الألمانية «نانسي فيزر»، وهي التي خلعت سترتها لتُضهر شارة «حب واحد» بالمدرّج؛ ضاربة التعاليم القطرية بوقاحة بعرض الحائط، فضلا عن تكميم لاعبي ألمانيا أفواههم قبل بداية مباراتهم ضد اليابان كردّة فعل لمنعهم من إرتداء شارة المثليين.
السؤال الذي يطرح نفسه، كيف ستُطالب من المهاجرين الأجانب الآن في ألمانيا الالتزام بأعراف البلد وهي التي اخترقتها في الخارج رغم تمثيلها دولتها؟
مقاطعة ألمانيا
ارتبطت هذه الأحداث مع إشعال نحو 20 ألف شمعة في ملعب كرة قدم في ألمانيا بذريعة الإحتجاج على ملف حقوق الإنسان في قطر، ووضع 6500 كرة قدم مليئة برمل صحراء تخليدا لذكرى آلاف العُمّال؛ ماتوا – زعما – في مواقع كأس العالم، إضافة إلى تصريحات القائمين على هذا التجييش التي اعتبرت الألعاب الرياضية الدموية الأكثر على الإطلاق؛ اشترتها قطر بالألم والموت، دون الإشارة إلى كبرى شركات المقاولات من الدول الغربية في مشاريع المونديال في قطر، فضلا عن رواتب العُمّال الغربيون في هذه الصناعات الذين يتقاضون رواتب أعلى بكثير من عمالة آسيا، غير أن هذه الحقائق لم يتناولها النقد الألماني أو الغربي عامّة بسجلّ قطر في مجال حقوق الإنسان.
وقد علّق الصحفي الألماني «أولريش رايتس»: «عملنا نحن الألمان بجد من أجل بلدنا، بعد أن تسبّبنا في الماضي في تيارات الدم في جميع أنحاء العالم. ربما يجب أن نكون أكثر حذرا بشأن تعليم الآخرين المبادئ والقيم الحميدة».
لا تُعتبر هذه البادرة غير تهييج مُمنهج واستفزاز واضح ضد الدوحة، فلو ضربنا مثالا لإستقبال دولة ما لألمانيا تريد برلين إبرام إتفاقية غاز معها بإضاءة ما يفوق ستة ملايين شمعة بكثير إحياء لذكرى المحرقة اليهودية لأخذت ذات المعنى، طبعا مع أخذ الحقائق والاتهامات والتضليل المُراد ترويجه ضد الدوحة بعين الإعتبار.
ذرائع واهية
تتفاقم الانتقادات الموجّهة ضد قطر بذرائع واهية؛ سوء معاملتها للعُمّال المهاجرين واضطهاد النساء ومحاولة استخدام المونديال لفرض المثلية في بلد عربي إسلامي يرفضه دينا وعرفا، فضلاً عن الشكوك حول كيفية منحها استضافة كأس العالم.
وأصوات أخرى بالجانب الآخر تتعالى في ذات الوقت من داخل ألمانيا وخارجها عن سبب تعرّض قطر لهذه الانتقادات الشديدة، مما يشير إلى أن تلك الانتقادات كثيرها ابتعد عن القضايا السياسية ليتطرّق إلى الإسلاموفوبيا، والغطرسة الأوروبية والألمانية خاصّة؛ الأمر الذي تحدّث عنه السياسي الألماني المخضرم، زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي السابق، ووزير الخارجية الأسبق «سيغمار غابرييل»، فقد صرّح بأكثر من مكان وغرّد على تويتر، لتُثير تغريدته حفيظة كثير الألمان المنجرّون وراء تجييش بعض الساسة والإعلام ضد الدوحة.
وقد قال في تغريدته: «بالطبع كانت تغريدتي استفزازية، ويجب أن تكون كذلك، لأنّني منذ بعض الوقت منزعج من الغطرسة تجاه قطر. الإصلاحات في الطريق، حتى لو كان هناك أوجه قصور».
«سيغمار» منزعج من الانتقادات المفرطة ضد قطر، ويقف وراء مونديال الدوحة، وقد وبّخ الغطرسة الألمانية بهذا الصدد بأكثر من مناسبة.
خطوات للأفضل
وقد صرّح لصحيفة «شتيرن»: «ليس الأمر بأي حال من الأحوال أنّني لا أرى المشاكل الموجودة في قطر، وبالمناسبة أقول ذلك للقطريين، لكنّني أرى أيضاً ما يحدث هناك في السنوات الأخيرة هي خطوات للأفضل، وهذا الجانب مخفي في ألمانيا، وبدلاً من ذلك فإنّنا نوجّه انتقادات شديدة إلى الدولة ونساعد دون قصد أولئك الذين يعارضون إصلاحات الأمير في قطر. تحدّثوا عن الأشياء التي لاتزال بحاجة إلى التغيير، واحترموا أيضاً ما تم تحقيقه بالفعل. ما حققناه الآن هو أن القطريين بدأوا يتجاهلوننا»، وأردف بأن ألمانيا استغرقت عقودا لتصبح ليبرالية.
الانتقادات لم تكن حصرا من ألمانيا أو كثير دول الغرب، إنّما مع شديد الأسف وصل هذا التحريض للإعلام المصري، الذي يقود هذا الجانب منه – وليس بالغريب – عمرو أديب، إبراهيم عيسى و أحمد موسى بإستثمار أي معلومة وتأويلها لتُقَدم للمشاهد على شكل إدانة لقطر، بالإضافة إلى الحديث حول المبالغ التي أنفقتها، وقلّ بمكان آخر الكلام عن الجهود والإنجازات التي قامت بها الدولة لخلق مدن مضيئة بهية في قلب صحراء قحط قحل مُمحلة؛ أولئك اعتبروا من باب الأولى إنفاق هذه الأموال على الدول الفقيرة والشعوب المحتاجة، متجاهلين بذات الآن التبرعات القطرية والسعودية والأمريكية والألمانية والباكستانية، وأخرى غير موجودة على الخارطة، وتلك التي تأتي من كلّ حدب وصوب ولم تُغيّر من حال الدول الفقيرة أو الفقراء شيء؛ فهم على حالهم، لأنّ أنظمة تلك الدول وببساطة يأكلون الأخضر واليابس.
للمراقب أن يتنبأ عن سياحة قطر مستقبلا، وله أيضا أن يُخمّن عن عائداتها التي ستعوّض كل النفقات التي يُغرّد بها مُتحامل هنا ومجحف هناك.
لذلك اتركوا قطر تستثمر إمكانيات البشر وبمونديال قطر وبالشمس والقمر.
وعلى الضفة الأخرى من الإدانات المستهلكة المغرضة الجاهزة للتداول غُضّ الطرف عن الإنجازات القطرية الهائلة بتجهيزات كأس العالم، ومعها في البنية التحتية، وجعلها وجهة سياحية وفرض نفسها سياسيا وتمريغ أنف الغرب جرّاء فرض تشريعنا الإسلامي وأعرافنا العربية.
لو أستثنينا هذا كلّه وتحدّثنا بسطحية المُراد منها إدانة الدوحة تنظيميا، ومعها بالضرورة أخلاقيا فسنُخطئ الهدف أيضاً، لأنّنا أخفقنا تضامنيا مع القضايا العربية، التي استطاعت قطر أن تُنصفها.
اتفاقيات الغاز القطرية
القضية تجاوزت المنافسات الرياضية، فالأمر شطّ عن الرياضة وأصبحت حرباً ونظرة فوقية ومركزية أوروبية يستخدمها كثير ساسة الغرب ضد العرب بإزدراء، وأخصّ ألمانيا تحديدا، وعلّ توقيع شركة قطر للطاقة، الاثنين 21 نوفمبر/تشرين الثاني، اتفاقية بيع مع مؤسّسة الصين للبترول والكيماويات «سينوبك» لتوريد 4 ملايين طن سنوياً من الغاز الطبيعي المسال لها لمدّة 27 عاماً؛ بدءاً من عام 2026 يبرّر الهجمة الضروس، التي بدأت بعد التوقيع؛ تباعاً مع خطابات البرلمان الأوروبي المثيرة للحنق حول حقوق المرأة العربية، وتهييج أوروبا ليخلُص البرلمان بإنتهاك حقّ المرأة العربية وتقديمه كعصورهم المظلمة.
وما فتئت الحملة ذروتها حتى ضربت الدولة مبادئها بعرض الحائط، لتوقّع اتفاقية غاز يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني؛ جمعت بين قطر للطاقة و «كونوكو فيليبس» الألمانية؛ تضمّنت توفير مليوني طن من الغاز الطبيعي المسال سنويا لألمانيا، ولمدة ١٥ عاما، بدءاً من عام 2026.
وصَفَ وزير الاقتصاد الألماني «روبرت هابيك» مدّة الاتفاق بالرائعة. ولكن من غير الرائع أن تبادل قطر مقاطعة ألمانيا المونديال بإتفاقية غاز، بدلا من استثمار الحاجة الألمانية لردّ الصفعة.
استثمار مواطن القوى
الإدارة الألمانية خدعت شعبها وفريقها عندما أقنعته بتسويق المثلية في مونديال قطر، ومعها مدرّب المنتخب؛ وزيرة الداخلية حملت معها على مدرّجات الدوحة شارة المثلية، وعلى ذات الطائرة كان وزير الاقتصاد يحمل أوراق توقيع اتفاقية عقد الغاز.
وبينما كانت حملة المقاطعة قائمة سياسيا واعلاميا على قدم وساق، كان يعيش الشارع الألماني انفصام أراده له إعلام بلده، فقد شاهد كأس العالم في مباراة ألمانيا-إسبانيا قرابة ١٧ مليون ألماني؛ فوق سن الثالثة تقريبا بين كلّ اثنين واحد (49.3 بالمائة)، وتمّ قياس 58.8 بالمائة بين 14 إلى 49 سنة، حسب بيانات «أبحاث الفيديو AGF» الألماني.
من لا يغار على قطر بهذه المناسبة، لا أظنّه يغار على أي قضية عربية، لذلك أراني أعتبر هذا المونديال تضامنا عربيا لزاما. وشجّعوا المغرب، فإنّ فوزها بمثابة ردّ الصفعة، وفوزها اليوم أمام إسبانيا، وهي التي يتأهل فيها منتخب عربي للمرّة الأولى إلى الدور ربع النهائي للمونديال أعُدّها فرحة عربية.