السعودية تعزز نهج الأبواب المفتوحة مع الصين وأمريكا
عندما سئل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال مقابلته مع مجلة “أتلانتك” في مارس (آذار) الماضي عما إذا كان يريد أن يعرف الرئيس الأميركي جو بايدن عنه شيئاً لا يعرفه، أجاب “ببساطة لا يهمني”، مردفاً إجابته التي تصدرت عناوين الصحف داخل بلاده وخارجها، “الأمر يعود إليه، ومتروك له للتفكير في مصالح أميركا”.
أجهض الأمير محمد بن سلمان حينها الفرصة أمام وسائل الإعلام الأميركية لتصوير الخلاف من منظور الرياض مع الولايات المتحدة بأنه شخصي أكثر منه سياسياً، إلا أنه أوضح أنه منفتح على التعاون مع الجميع ما دام احترام قيم كل طرف مكفولاً، ملمحاً إلى أن تفويت أميركا الفرص في بلاده لن يكون إلا مبعث سعادة لمن هم في الشرق ممن تسعى أميركا إلى “صدهم”، في إشارة على الأرجح إلى المنافسة الاستراتيجية بين أميركا والصين.
وحملت مقابلة “أتلانتك” تلك التي نشرتها وكالة الأنباء السعودية كاملة تحولاً في الخطاب السعودي الرسمي تجاه أميركا توقف عنده كثيرون، فولي العهد السعودي لا يهمه ما تفكير الرئيس الأميركي تجاهه، ويرفض ممارسة الضغوط على بلاده، ولكنه لا يقفل جميع الأبواب أمام التعاون، بل يقول إن هنالك فرصة لتعزيز العلاقات السعودية – الأميركية، فإن الأمر يعود لواشنطن وغيرها إذا أرادت “الفوز بالسعودية أو الخسارة”.
وعلى الرغم من أن تصريحات الأمير محمد بن سلمان لم تقلل من أهمية العلاقة مع أميركا، فإنها كشفت عن الموقف السعودي من شهية الصين المفتوحة لتثبيت أقدامها في الشرق الأوسط، وترسيخ علاقاتها مع دول الخليج ذات الصوت الثقيل في أسواق النفط والغاز العالمية، وهو موقف يبدو مرحباً بتعاون أكبر مع بكين ما دام يخدم مصالح البلدين. وتجسد انفتاح السعودية على عرابة مبادرة “الحزام والطريق” في نمو استثماراتها في الصين بوتيرة متسارعة، حتى بلغت 100 مليار دولار مقابل 800 مليار، نصيب أميركا من استثمارات حليفتها الخليجية.
شي في الرياض
رغبة السعودية في تنويع تحالفاتها حتى لا ينتهي بها الحال رهينة لأميركا والغرب دفعتها نحو الارتقاء بعلاقتها مع الصين الطامحة إلى إطاحة أميركا من عرش أقوى اقتصادات العالم، إذ لم يتوقف التعاون بين البلدين الآسيويين على النفط السعودي الذي تسد الصين به حجماً كبيراً من احتياجاتها من الطاقة بوصفها أكبر مستورديه، بل تعمق عسكرياً بحسب تقارير تشير إلى تعاون بين البلدين لتصنيع صواريخ باليستية، وهو ما لم تؤكده الرياض.
وعلى الرغم من أن أي زيارة خارجية للرئيس الصيني تحمل ثقلاً خاصاً، فإن زيارة شي جينبينغ إلى الرياض واكبتها قراءات كثيرة في أهميتها ورمزيتها، نظراً إلى أن الزعيم الصيني يحط في الرياض في وقت لا تبدو فيه العلاقات السعودية مع خصم بكين اللدود الولايات المتحدة في أحسن أوقاتها، الأمر الذي جدد تساؤلات حول تأثير الزيارة في مستقبل العلاقات بين السعودية وأميركا، ومستقبل المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، مع توسيع الصين وجودها في المنطقة، الذي كان آخر علاماته ثلاث قمم مرتقبة، واحدة مع حليفة واشنطن الأكبر في الخليج يرأسها العاهل السعودي بمشاركة ولي عهده، وثانية مع دول الخليج، وثالثة أوسع تضم الدول العربية.
لكن القمم الثلاث التي تنظمها السعودية، وتقرب عيني التنين من واقع عربي يعج بما يغريه وما لا يغريه، أي النزاعات والثروات، لم تكن وليدة اللحظة، فهي بحسب مراقبين ليست رد فعل تجاه سلوك إدارة بايدن التصعيدي ضد السعودية، بل هي نتيجة لسلسلة خطوات اتخذها البلدان منذ سنوات للارتقاء بالعلاقة، وكان تعزيز التبادل الثقافي عبر تعليم اللغة الصينية جنباً إلى جنب الإنجليزية في المدارس السعودية، إحدى أكثر خطوات التقارب رواجاً ومرئية.
الصين في المقابل لم تألُ جهداً في الاستثمار لتحسين صورتها الخارجية عبر إتاحة دراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية أمام الطلاب الصينيين في أكثر من 40 جامعة، بحسب تقرير صادر في أكتوبر (تشرين الأول) عن معهد واشنطن، كما كشف تقرير الدراسات الدولية الصادر عن جامعة شنغهاي في عام 2018 أن نسبة الطلاب الصينيين الذين يدرسون في الشرق الأوسط قد ارتفعت بنسبة 21 في المئة بين عامي 2004 و2016. ووجدت دراسة أخرى أجرتها الجامعة في عام 2016 أن أكثر من 14 ألف طالب وطالبة من الشرق الأوسط يدرسون في جامعات صينية.
الاقتصاد والأمن في الواجهة
لكن يظل تنامي الروابط الاقتصادية أكبر مثال على صحة العلاقات واستدامتها، وهو ما تجسد في حجم الاتفاقات المزمع توقيعها بين السعودية والصين هذا الأسبوع، التي قد تصل قيمتها إلى 30 مليار دولار، أي أقل بـ70 مليار دولار من قيمة الصفقات التي أبرمتها السعودية والولايات المتحدة بالتزامن مع زيارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى الرياض. ويتوقع مراقبون أن يحظى شي باستقبال حافل كالذي حظي به ترمب، وأكثر حفاوة من الاستقبال الذي تلقاه بايدن في جدة، بعد أشهر متوترة أججت الغموض حول مستقبل العلاقات بين الرياض وواشنطن.
أما عسكرياً، فقد استضافت القوات الخاصة الصينية في عام 2016 نظيرتها السعودية في تدريبات امتدت 14 يوماً، وفي عام 2019 أجرت الصين والسعودية ثلاث مناورات عسكرية. ولم يكن التعاون الصيني مقتصراً على الخليج، ففي وقت لاحق من ذلك العام، شاركت مدمرة صينية بصواريخ موجهة في مناورة مشتركة لمكافحة القرصنة مع البحرية المصرية، إضافة إلى تدريبات عسكرية متنوعة مع دول أخرى بالمنطقة. وتمثل المشاركات الصينية العسكرية بالنسبة للولايات المتحدة تهديداً لمكانتها في الشرق الأوسط، في حين تبدو السعودية مهتمة بتنويع علاقاتها مع الصين، بما يشمل تعزيز التعاون العسكري، وتعد الرياض أكبر مشتر للأسلحة الصينية في الشرق الأوسط.
ومثل الولايات المتحدة وباقي الدول المصدرة للسلاح، تستخدم الصين مبيعات الأسلحة كأداة لتعزيز مصالحها التجارية والأمنية، وفي الشرق الأوسط، تدعم مبيعات الأسلحة جهود الصين لحماية مصالحها الخارجية بعدة طرق منها تطوير الصناعات الدفاعية الصينية وتعزيز مكانة العتاد الصيني وخلق فرص لتعاون عسكري أوسع، إضافة إلى سد احتياجات شركاء الولايات المتحدة التقليديين بإمدادات بديلة من الأسلحة الصينية.
وتسبق الصين أميركا بميزة تنافسية تتفوق بها عند البلدان التي سئمت القيود الأميركية على السلاح وفترات الانتظار الطويلة لتمرير صفقات السلاح. وساعد ذلك الصين في تسويق أسلحتها في الشرق الأوسط، فبنهاية الحرب الباردة، كانت بكين رابع أكبر مصدر عالمي للأسلحة، وتوجه جزء كبير منها إلى الشرق الأوسط. وفي الثمانينيات، اشترت السعودية من الصين 50 صاروخاً باليستياً متوسط المدى من طراز “Dong Feng-3″، الملقبة بصواريخ “رياح الشرق”.
وعندما أبرمت السعودية هذه الصفقة سراً مع الصين من دون معرفة الولايات المتحدة، لم تكن الرياض قد دشنت علاقات دبلوماسية مع الصين، لكن إصرارها على تأمين احتياجاتها الدفاعية الذي تكشف في حوار رئيس تحرير “اندبندنت عربية” عضوان الأحمري مع سفير السعودية السابق لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، أكد براغماتية الرياض التي لم تتردد في اللجوء إلى البدائل المتوفرة في الصين، رداً على رفض إدارة رونالد ريغان بيع صواريخ “بيرشينغ” وطائرات الـ”أف 15 E”. ويرى مراقبون أن هذا النهج السعودي المنفتح على كل الخيارات وسيلة لفهم مستقبل العلاقات السعودية مع الغرب والشرق.
لكن التعاون العسكري الصيني مع بلدان الشرق الأوسط لم يخل من جدل، فإبان الحرب العراقية- الإيرانية، باعت بكين كلا البلدين نفس الطائرات المقاتلة “F-6” و”F-7″، إضافة إلى دبابات وناقلات جنود مدرعة ومجموعة من أنظمة الصواريخ، وتعكس هذه الواقعة نهج الصين الحالي في مد الجسور مع كل من السعودية وإيران على الرغم من العداء بينهما.
تقلب الشريك الأميركي
وعودة للحاضر، يرى مراقبون أن زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية تكتسب أهميتها لسببين، الأول التوقيت، إذ تأتي في وقت تتصاعد فيه المنافسة بين القوى العظمى، الأمر الذي يحتم على هذه الدول تعميق تحالفاتها الاستراتيجية، والثاني أنها تأتي وسط خلاف سعودي- أميركي حول السياسة النفطية وطريقة التعاطي مع الحرب الروسية- الأوكرانية.
ورداً على سؤال “اندبندنت عربية” عن رمزية رحلة شي إلى الرياض وسط توتر العلاقات السعودية- الأميركية، قالت سيمون ليدين نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي سابقاً، إنها “تتفهم سعي السعوديين لتحويط رهاناتهم، نظراً إلى تقلب أميركا كشريك خلال السنتين الماضيتين”.
وأوضحت ليدين أن “لقاء السعوديين مع أكبر مستورد لنفطهم لا ينبغى أن يكون مفاجئاً لأي أحد”، إلا أنها حذرت الولايات المتحدة من أن تسمح بتدهور العلاقة مع الرياض إلى حد يمكن الصين من استبدالها في نواح استراتيجية أكثر أهمية.
واستبعدت المسؤولة السابقة في البنتاغون أن يمثل التعاون بين السعودية والصين في مجال الصواريخ الباليستية “تحولاً استراتيجياً”، فالولايات المتحدة لا تزال الشريك الأساسي للسعودية في مجال بيع الأسلحة. وأضافت “لا نبتهج بالتعاون الدفاعي بين السعودية والصين، لكن ما يعوق الولايات المتحدة لتكون المصدر الوحيد لجميع الاحتياجات الدفاعية للرياض هو (قيود) سياسات مبيعات السلاح الأجنبية، وهو ما ينطبق على جميع شركاء الولايات المتحدة، ولا يقتصر على السعودية”.
لا تحول سعودياً نحو الشرق
وفي سياق متصل، يرفض فراس مقصد الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن تصوير توسع التعاون السعودي- الصيني بأنه “تحول من الغرب إلى الشرق أو من الولايات المتحدة إلى الصين”، قائلاً إن “بكين كانت وستظل الشريك التجاري الأول للسعودية، في حين ستبقى الولايات المتحدة بالنسبة للسعودية الشريك الأمني والاستراتيجي المنقطع النظير”. وأضاف “يمكن للشراكتين أن تعيشا معاً، على مشارف عالم متعدد الأقطاب أكثر تعقيداً”.
وأكد مقصد الذي عمل مساعداً للمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط أن التعاون السعودي- الصيني لا يحل محل الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض، فعلى الرغم من أن “السعودية اتخذت قراراً استراتيجياً لتوسيع علاقاتها الاقتصادية مع الصين وتعميقها، فإنها ما زالت تحمي شراكتها الأكثر أهمية وشمولاً مع الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين”، لافتاً إلى أن السعودية كإحدى دول الـ20 تعهدت دعم مبادرة “الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي”، التي ينظر لها على نطاق واسع كبديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية. وتابع “عندما تكون الأنظمة الدفاعية الأميركية غير متوفرة، فإن المملكة غالباً ما تفضل البدائل الأوروبية على البديل الصيني الأرخص، لرفع قابلية التشغيل البيني، وحماية التكنولوجيا الغربية من الاختراقات”.
العلاقات الصينية – الإيرانية
أما الباحث السعودي عبدالله العساف، فيرى أن علاقات السعودية مع الصين وانفتاحها على الشرق ليست موجهة ضد أحد بعينه، قائلاً إن “جميع الدول اليوم تبحث عن مصالحها في الشرق، ومنها الولايات المتحدة التي اتجهت شرقاً”. وأضاف “العالم يترقب ميلاد نظام عالمي جديد ونحن يجب أن نكون من المؤثرين والصانعين لا من المنتظرين”.
وذكر أستاذ الإعلام السياسي أن “الانفتاح السعودي على الصين يقلق الولايات المتحدة، لكن الإدارة الأميركية الحالية هي التي اختارت ذلك”. ونوه بتنامي التعاون العسكري بين الرياض وبكين قائلاً “الصناعات العسكرية الصينية بدأت تضاهي الصناعات الأميركية والغربية، ولا تضع اشتراطات وقيوداً على مبيعاتها، ولا تتدخل في هوية البلدان أو تدعي أنها تمارس الولاية على حقوق الإنسان”.
وفيما يرى الباحث السعودي أن الصين ستدافع عن مصالحها الاقتصادية، عبر إنجاح مبادرة خط الحزام والطريق التي تلتقي مع رؤية السعودية، اللتين تتطلبان استقرار المنطقة، فإنه يدعو الصين إلى تبني “مقاربة في عملية التوازن في علاقاتها بين عدوين لدودين، الخليج العربي وإيران”. وأضاف “على الصين أن تنعتق من الشرنقة التي وضعت نفسها فيها، وتمارس جزءاً من قوتها وإرادتها حتى تصبح أكثر إيجابية ولا تختفي خلف الكلمات الناعمة والدبلوماسية والمطاطة والحياد الإيجابي (بل) يجب أن تكون فاعلة ومؤثرة سياسياً وعسكرياً في المنطقة حتى تحمي مصالحها وشركائها ومستقبلها”.
وتعتبر روابط الصين المتنامية بإيران، التي تعمقت بعد اتفاقية الـ25 سنة التي وقعتها طهران مع الصين، العام الماضي إحدى العقبات التي قد تواجه تنمية الشراكة السياسية والعسكرية بين الرياض وبكين، إلا أن هناك من يأمل أن تدفع بكين من خلال اتفاقها النظام الإيراني نحو تحسين علاقاته مع دول الخليج. ومع ذلك، هناك من يستبعد أن يكون للاتفاق تأثير في سلوك الإيرانيين في المنطقة لأن سلوك النظام مبني على أسس استراتيجية وأهداف على المدى الطويل.