لماذا وصف “غورباتشوف” حافظ الأسد بأنه “أحد كفار مكة”؟
كشف “فيكتور إسرائيليان” نائب آخر وزير خارجية سوفييتي صفحات من محضر اجتماع الرئيس السوري السابق “حافظ الأسد“، مع غورباتشوف في آخر زيارة له إلى الاتحاد السوفييتي نيسان1987، والتي تنشر للمرة الأولى.
وتوفي “ميخائيل غورباتشوف“، وهو آخر زعيم لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية يوم، الثلاثاء الماضي، عن عمر ناهز الـ 91 عامًا بعد سنوات من الاعتكاف والغياب عن المشهد السياسي والإعلامي.
وبحسب المؤرخ السوري “جورج فاضل متى” الذي نقل ما ورد في مقالة “إسرائيليان”، فقد قام حافظ الأسد في إبريل من العام 1987 بآخر زيارة له إلى الاتحاد السوفييتي قبل تفككه.
وكان على “اسرائيليان” ـ كما يقول ـ المساهمة مع زملائه في إعداد وثائق الزيارة وترتيباتها ومحاضرها، باعتباره كان عضواً في «الكوليغيوم» مجلس وزارة الخارجية المسؤول عن صنع قراراتها.
نهاية الحرب الباردة
وهذا ما مكنه من الاطلاع على ما دار خلال الزيارة التي كانت غايتها من جانب “الأسد”، هي استطلاعَ المناخات السياسية الجديدة في موسكو في ضوء «البيروسترويكا»و«الغلاسنوست»، والعملَ على إبرام صفقة سلاح جديدة إذا أمكنه ذلك.
أما النقطتان الأساسيتان على جدول أعمال الطرف السوفييتي فكانتا شرْحَ التطورات والسياسة الجديدة في الاتحاد السوفييتي و«نهاية الحرب الباردة ” وبحثَ موضوع الديون المترتبة على سوريا،وهي في أغلبها ديون عسكرية قاربت في حينه أو تجاوزت 13 مليار دولار.
وكانت تعادل تقريباً خمْس الديون السوفييتية المترتبة على البلدان العربية والعالم ثالثية الأخرى التي كانت تتلقى مساعدات تقنية وتعليمية وعسكرية من الاتحاد السوفييتي.
بالون اختبار
وكشف الدبلوماسي الروسي المحنك–بحسب المصدر- أن الأسد تحدث خلال اللقاء مع “غورباتشوف”، فيما بدا أنه إطلاقُ بالون اختبار لمعرفة ردّ فعل مضيفه ونهجه الجديد في السياسة الخارجية عن «التوازن الاستراتيجي» الذي تنوي بلادُه بمفردها إقامتَه مع إسرائيل. وذلك بعد أن أصبحتْ وحدها في جبهة المواجهة معها، وبعد أن خرجت مصر من الصف العربي وألقت بنفسها في الخندق الأميركي،-كما قال-.
وكان مرافقُه، عضو قيادة الحزب الشيوعي السوري “دانيال نعمة” يسعفه ويذكّره بين حين وآخر ببعض الأرقام أو التواريخ والوقائع.
وتحدث في هذا الإطار عن حاجة بلاده إلى شحنات جديدة من السلاح، ومن بينها صواريخ دفاع جوي من طراز S300 وطائرات ودبابات حديثة تستطيع إحداث توازن مع إسرائيل. لكنه تجنب في اللقاء نفسه الحديث عن كيفية تمكنه من تسديد ثمن هذه الشحنات أو عن الديون السورية المترتبة لموسكو.
الجمعية الخيرية التي افتتحتها موسكو أغلقت
ورغم أن هذه الأخيرة كانت أعلنت أكثر من مرة بلسان عدد من مسؤوليها، ومن بينهم غورباتشوف نفسه، وبما معناه أن«الجمعية الخيرية» التي افتتحتها موسكو طوال عشرات السنين أغلقت أبوابها الآن،وهي تعمل على تحصيل ديونها وإغلاق دفاتر حسابتها القديمة مع أصدقائها.
مضيفاً أن السياسة الجديدة تقوم على قواعد السوق والعلاقات التجارية المتكافئة،وليس على أساس سياسي أو أيديولوجي كما كان عليه الأمر
وبدت العلاقة بين سوريا والاتحاد السوفييتي وثيقة وعميقة في عام 1987، وكان من الواضح أن سوريا كانت مفضلة بين الدول العميلة للسوفييت في العالم الثالث، وفق “مكتبة الكونغرس الأميركية“.
وحصلت سوريا على معظم معداتها العسكرية من الاتحاد السوفييتي لأكثر من عشرين عاماً، إضافة لذلك كان هناك وجود عسكري سوفييتي كبير في سوريا.
صدمة هائلة
وبعد أن أنهى الأسد حديثه، كانت صدْمتُه هائلة إلى حد امتقاع وجهه واصفراره حين تناول غورباتشوف من أحد مساعديه الحاضرين قوائمَ مفصلة وموثقة وراح يقرأ فيها تفاصيلَ عن مشتريات الدولة السورية من السلع الكمالية الفاخرة خلال السنوات الأخيرة رغم الأزمة الاقتصاية الخانقة التي كانت تعيشها بلاده، والتي عبّرتْ عن نفسها بطوابير السوريين المنتظرين أمام التعاونيات الاستهلاكية بحثاً عن زجاجة زيت طبخ أو علبة شاي أو سكر أو أرزّ.
وكان من بين تلك المشتريات-وفق القوائم-أعداد هائلة من سيارات «مرسيدس» الألمانية و«بيجو» الفرنسية و«فولفو» السويدية، فضلاًعن«رينج روفر».
كما تحدث-بالأرقام والتواريخ-عن حجم المشتريات السورية الأخرى من أرقى وأحدث ما أنتجته المصانع الغربية واليابانية من السلع الإلكترونية الفاخرة،التي لا يستطيع اقتناءَها إلا كبار أعضاء الجهاز البيروقراطي المدني والعسكري في سوريا.
وشملت القوائم حتى الأثاث الأوربي الفاخر والرخام الإيطالي ومواد البناء الأخرى ذات النوعية الخاصة جداً التي كانت تُستخدم حصراً في بناء وتأثيث قصور وفيلاّت المسؤولين المدنيين والعسكريين السوريين من نخبة النظام.
وبعد أن انتهى “غورباتشوف” من مطالعته الوثائق/ العقود التي بين يديه، والتي كانت أعدتها وزارة الخارجية السوفييتية و عدد من سفاراتها المعنية بالأمر، فضلاً عن لجنة أمن الدولة KGB، توجه إلى ضيفه بالقول:
«سيادة الرئيس! لا أعرف كيف يمكن الحكومة السورية أن تشتري هذه الكميات الهائلة من السلع الكمالية التي لا لزوم لها لبلد هو في حالة حرب وينوي إقامة توازن استراتيجي مع العدو الذي يحتل أرضه.”
وتابع:”وأن تدفعَ ثمنها مئات ملايين الدولارات نقداً بالعملات الصعبة،بينما شعبُها يعاني ضائقة خانقة حتى في مستلزمات العيش اليومية،وتريد هي-في الآن نفسه-الحصول على السلاح اللازم للتوازن الاستراتيجي بالدَّين!؟لقد استطاع الفيتناميون أن يقيموا توازناً استراتيجياً مع الولايات المتحدة نفسها،ثم أن يهزموها وهم أشباه حفاة ولا يجدون ما يأكلونه سوى الأرزّ المنقوع بالماء. ودون أن يكون لديهم أي نوع من السلاح الحديث الذي حصلت عليه سوريا.”
واستطرد غورباتشوف في رد مفحم على حافظ الأسد:”وأستطيع الجزم بأنه ما من أحد من قادتهم ركب حتى سلالات قديمة من طرازات هذه السيارات،أو حتى شاهدها في حياته كلها إلا في المجلات والأفلام الأجنبية أو خلال مفاوضاتهم مع أعدائهم في العواصم الأوربية.ففي هانوي كلها لم يكن يوجد- وفق معلوماتي الدقيقة- أكثر من عشر سيارات حكومية مطلع السبعينيات.”
وأضاف غورباتشوف متسائلاً باستنكار وبنبرة منكسرة ملؤها الألم، الحقيقي أو المصطنع، بينما كان ضيفه ينظر مطرقاً إلى الأرض وهو يستمع إلى المترجم: «ألا يمكن للضباطَ والمسؤولين السوريين أن يركبوا سيارة Lada أو Volga أو Moskvitch الروسية التي يركبها أعضاء المكتب السياسي وكبار قادة الجيش والوزراء عندنا،بدلاً من المرسيدس والبيجو؟”
واستطرد:”هل من العدل والإنصاف في شيء،خصوصاً في العلاقات الأخوية بين صديقين،أن يقوم أحدُهما بشراء السلاح من صديقه بالدَّين، بينما يدفع الدولارات لخصوم صديقه من أجل سلع استهلاكية لا ضرورة لها؟أوَليسَ العمالُ السوفييت،الذين اضطررنا مؤخراً لأن ندفع مرتباتهم في بعض المصانع على شكل زجاجات فودكا بدلاً من الروبل، أحقّ بهذه الدولارات من أصحاب الشركات الإمبريالية التي تدعم عدوكم إسرائيل؟”
“دش بارد”
والملفت خلال اللقاء الذي تحول إلى توبيخ للرئيس الذي كان يطلق عليه الكثيرون لقب “أبو الهول” لصمته الدائم، أن غورباتشوف التفت إلى المترجم، وكان من أصول داغستانية مسلمة ومتخرجاً في معهد الاستشراق في موسكو ويجيد العربية بطلاقة وتوجه له بطلب.
حيث طلب منه أن يذكّره بتلك الآية القرآنية الاستنكارية التوبيخية التي تتحدث عن القسمة الجائرة التي اختارها أعداء النبي محمد، فيما يتعلق بالإناث والذكور،لكي يوحي لضيفه بأن توزيع علاقات سوريا الاقتصادية والعسكرية على هذا النحو الجائر بين الاتحاد السوفييتي والغرب لا يشبه شيئاً سوى منطق وسلوك «كفار مكة» يقصد الكاتب الآيتين 21 و 22 من سورة «النجم»:«ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذاً قِسمةٌ ضِيزى» ـ .
ولم يسبق لحافظ الأسد أن تعرض في حياته إلى«دش ماء بارد» وموقف صادم من هذا النوع، سواء في علاقاته مع الاتحاد السوفييتي أو غيره،خصوصاً حين جرت مقارنةُ سلوكِه – وهو المسلم المؤمن- بسلوك كفار مكة.