عادل سيف يكتب عن: “بار الرأسمالية”
عندما كنت في صباي مع بدايات الستينيات كان شارع الشواربي خارج سياق باقي شوارع وسط البلد بهدوئه الشديد لاختلافه عنهم لوجود بعض القصور والباقي عمارات أشبه بالقصور وندرة المرور لقلة عدد سكانه، وربما تشعر حاليا بشيء قليل مما تبقى من الهدوء في الشوارع الجانبية المتفرعة منه.
هذا الهدوء وهذه القصور وما شابهها دفعوا إلى طريق الزوال بعد حرب 1967 التي مازلنا ندفع فاتورتها حتى الان، إذ تطلب بعد النتيجة المريرة لهذه الحرب أن يتم التركيز علي بناء الجيش من الصفر وأدى ذلك إلى سحب الجانب الأكبر من الاعتمادات المالية التي كانت مخصصة للخدمات وغيرها من بنود الميزانية لتوجيهها لعملية البناء، وبالتالي ازدادت قيود الاستيراد المقيدة أصلا في ظل التطبيق الاشتراكي وغابت العديد من السلع الاستهلاكية المستوردة وكان جانب منها يأتي بالتهريب من غزة قبل فقد مصر السيطرة عليها.
وأمام هذه القيود تزايدت الرغبة في الحصول علي أي قطعة ملابس او أي سلعة مستوردة لدرجة اننا كنا كمراهقين في فترة هذه الحرب نفتقد البنطلونات الجينز من الماركات الاصلية وكان البعض مننا يسعده ان يجد علبة سجائر أمريكية فارغة ليلصقها مع مثيلاتها على الحائط أعلى سريره كزينة لغرفة مراهق.
كان الحل لهذه الرغبة يكمن في تحويل بوصلة التهريب من غزة إلى بيروت وبالفعل بدأت تدخل السلع المستوردة المهربة منها وبكميات مثيرة للدهشة لدرجة انها خرجت من نطاق بيعها بشكل فردي وخفي لتباع في منافذ سميت بالبوتيكات وكان هذا المسمى جديد تماما وغير معروف من قبل في السوق المصري، ولم تختار هذه البوتيكات مكانا تتركز فيه الا شارع الشواربي الذي قلبته رأساً على عقب.
ولم تترك هذه البوتيكات مكاناً في الشارع الهادي الا وتفننت في ان تجد لها موضع قدم سواء في احتلال حدائق أو في تغيير واجهات قصور لتتلائم مع نشاطها ووصل الامر في مستقبل هذه الظاهرة الى هدم قصور وبناء عمارات تأخذ في الاعتبار توفير أماكن لها وهذا ما أفقد الشارع مظهره وشخصيته السابقة.
أما الهدوء فضاع مع زحام المترددين عليه من كل الفئات وبعضهم يهدف للحصول على سلعة ولو صغيرة ليتباهى بأنها من الشواربي، والبعض منهم اكتفى بالتمتع بمشاهدة البضائع في الفتارين التي نظمت بعناية فائقة ومغرية، وظهر في وسط هذه البوتيكات صالون حلاقة فاخر وبأسعار خاصة وحمل اسم “جولد فينجر”، وهو اسم لاحد أفلام جيمس بوند، ليتلائم مع الجو العام.
كان أقرب تصور لشارع الشواربي في ظل القيود الاشتراكية ببار للرأسمالية تدخله لتنسي هذه القيود سواء بالشراء او التمتع بجو استهلاكي سحب الأنظار عن باقي محلات وسط البلد التي كانت تبيع المصنوعات المصرية فقط.
لم ينسحب البساط عن الشارع ويتراجع الاهتمام به الا مع تطبيق سياسة الانفتاح التي سمحت باستيراد السلع إضافة لتحويل بورسعيد الى منطقة حرة فأصحبت كبوتيك أكبر وبأسعار اقل.
خرج الشارع من المنافسة ولكنه فقد جماله الأصلي، وكعادتنا في الوصول متأخرا تم تحويل الشارع للمشاة فقط في وقت فقد فيه ذروة الاهتمام به كشارع للسلع المتميزة.