أوروبا تبدأ طرد اللاجئين الأوكرانيين .. تكلفة وجريمة وفقر !
فر أكثر من 6.8 مليون لاجئ أوكراني منذ الغزو الروسي لبلادهم في أواخر فبراير من هذا العام. وقد استقبلت دول الاتحاد الأوروبي أغلبية هؤلاء اللاجئين، ومنحتهم تأشيرات تسمح لهم بالإقامة والعمل في دول الاتحاد لمدة تصل إلى ثلاث سنوات. وقد زخرت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المختلفة بالمنشورات والمقالات التي تظهر قدراً كبيراً من التعاطف والترحيب باللاجئين الهاربين من الهجوم الروسي – على حد تعبيرهم – إلا أنه مع اقتراب دخول الحرب شهرها الخامس، واستمرار توافد اللاجئين الأوكرانيين على الدول الأوروبية، ظهرت بعض إرهاصات التغير في طريقة تعاطي الحكومات والإعلام مع ملف اللاجئين الأوكرانيين، والأزمة الأوكرانية بوجه أعم.
تحولات المزاج العام
صحيح أن الدول الأوروبية، والغربية بصورة مجملة، رحبت في بدايات الأزمة الأوكرانية باستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وقدمت لهم تسهيلات عديدة، بيد أن طول أمد الأزمة طرح تساؤلات حول إمكانية استمرار هذا التوجه الأوروبي؛ إذ تشكلت، في الفترة الأخيرة، بعض ملامح تحولات المزاج العام الأوروبي تجاه قضية اللاجئين، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي:
1– التركيز على الأبعاد الاقتصادية لاستضافة اللاجئين: بدأت مراكز الأبحاث والصحف الغربية تسلط الضوء على التكلفة الاقتصادية الكبيرة التي تتحملها دول الاتحاد الأوروبي من جراء استضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين الأوكرانيين؛ فعلى سبيل المثال، قدر تحليل أعده مركز التنمية العالمية الأمريكي أن استضافة اللاجئين الأوكرانيين قد تكلف الدول الغربية أكثر من 30 مليار دولار في العام الواحد فقط، مع تقدير أن تتضاعف هذه التكلفة مع ارتفاع مستوى التضخم في الاقتصاد العالمي. وهذه التكلفة تشير إلى صعوبة استمرار المجتمعات الغربية في تحمل بقاء اللاجئين الأوكرانيين لديها لفترة زمنية طويلة، لا سيما مع الأوضاع الاقتصادية العالمية غير المواتية التي طالت آثارها السلبية كافة المجتمعات.
2– اقتحام صحف الفضائح المعادلة الإنسانية: بدأ البعد الإنساني للقضية يتلاشى من الساحة الإعلامية، وحل محله بُعد آخر يسعى نحو الإثارة والتشويق في تناول قضية اللاجئين، وهو المجال الذي تنشط فيه مجلات الفضائح. فقد انتشر، خلال شهر مايو 2022، على المنصات الإعلامية المختلفة صورة للاجئة أوكرانية في أوائل العشرينيات قيل إنها هرب مع مستضيفها، عقب أسبوعين فقط من الإقامة معه هو وزوجته وأبنائه. وقد تتابعت تعليقات المتفاعلين على هذه القضية، بتوجيه النصح إلى مواطنيهم – رجالاً كانوا أم نساءً – بعدم الانسياق وراء الشعارات الإنسانية، والمحافظة على استقرار وترابط أسرهم، من خلال عدم دعوة الأغراب أو اللاجئين الأوكرانيين للإقامة في منازلهم وتدميرها.
3– تزايد اللاجئين المشردين بشوارع المجتمعات المستضيفة: أشارت عدد من المنظمات المجتمعية والحقوقية المحلية في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا، إلى أن أعداداً متزايدة من اللاجئين الأوكرانيين أصبحوا بلا مأوى، وفي كثير من الحالات مشردين في الشوارع، بعد رفض مضيفيهم استمرار بقائهم في منازلهم، أو حتى استمرار الإقامة معهم حتى تمكُّنهم من إيجاد مأوى جديد. ويواجه اللاجئين الأوكرانيون في إسرائيل أزمة مماثلة؛ فقد تم إجبار بعضهم على ترك الفنادق التي خُصصت لإقامتهم في البلاد. وما يضاعف هذه الأزمة، رفض ملاك العقارات السماح لهم بالاستئجار والإقامة في منازلهم، خوفاً من تخلفهم عن سداد مستحقات الإيجار عقب ذلك.
4– استغلال اللاجئين في الأعمال اللا أخلاقية: تصاعدت حدة انتقادات المنظمات الدولية لعدد من الممارسات اللا أخلاقية الممارَسة ضد اللاجئين الأوكرانيين في البلدان المستضيفة لهم، في ظل ما سمَّتها تواطؤ وصمت الحكومات؛ ففي بريطانيا – على سبيل المثال – خرجت عدد من التقارير التي تؤكد أن ما يصل إلى 30% من المواطنين المدرجين على قوائم استقبال اللاجئين الأوكرانيين، رجال عازبون فوق سن الأربعين. ويضاف إلى ذلك أن أغلبيتهم يعرضون استضافة عازبات في العشرينيات أو الثلاثينيات من العمر، في ظل تجاهل من السلطات المحلية لمثل هذه الممارسات التي قد تعرض سلامة هؤلاء اللاجئات للخطر. يضاف إلى ذلك، وجود عدد من التقارير التي تؤكد تعرض اللاجئات الأوكرانيات للعديد من حوادث الاغتصاب، سواء على أيدي الجنود الروس، أو في المجتمعات المستضيفة، مع رفض بعض الدول، مثل بولندا والتشيك، منحهن الحق في إجهاض الحمل الناتج عن هذه الحوادث.
5– الترويج لاستخدام “بوتين” ورقة اللاجئين لإضعاف أوروبا: وجه – خلال الأسابيع الأخيرة – عدد من علماء الاجتماع والساسة الأوروبيين، انتقادات بالغة للرئيس “بوتين”؛ لاستخدامه اللاجئين الأوكرانيين ورقة ضغط على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مؤكدين أن هذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها “بوتين” اللاجئين ورقة لتحقيق أهدافها السياسية، وقد أرجعوا هذا التكتيك إلى ما تسمى سياسة “الهندسة العرقية” التي تعود إلى الحقبة السوفييتية، والتي تعني محاولة تعزيز التوترات السياسية على أساس الخلفيات الدينية أو العرقية أو اللغوية المختلفة للأفراد.
ووفقاً لمسؤولين وخبراء غربيين، ساعد “بوتين” في خلق أزمة هجرة مواطني الشرق الأوسط إلى أوروبا خلال عامي 2015 و2016، عبر سياسة التصعيد العسكري في سوريا؛ ففي عام 2016، وفي الوقت الذي وافق فيه الاتحاد الأوروبي فيه على استقبال عدد من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا؛ رفضت كل من المجر وبولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك استقبال أي من اللاجئين على أراضيها، وهو ما أدى في النهاية إلى تصاعد حدة التوتر السياسي بين دول الاتحاد الأوروبي، وتعزيز قوة الأحزاب اليمينية المناهضة للمهاجرين في كل من إيطاليا وألمانيا.
كما دفع القلق العام بشأن الهجرة، المواطنين البريطانيين إلى التصويت في عام 2016 لصالح مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي. وأكد الخبراء أن سياسة “بوتين” الحالية في أوكرانيا، لا تختلف كثيراً عن سياسته في سوريا، وأنه إذا استمرت أعداد اللاجئين الأوكرانيين في التزايد، ستتصاعد الأزمة إلى حد غير مقبول، وسيصبح من الصعب على دول الجوار استقبال المزيد من اللاجئين، وهو الأمر الذي بدأت بوادره في الظهور بالفعل.
التململ المجتمعي
لم يكن في حسبان الدول الغربية حينما رحَّبت باللاجئين الأوكرانيين، أن الأزمة ستستمر لفترة زمنية طويلة؛ إذ أنتجت إطالة أمد الأزمة الأوكرانية تغييرات في نبرة الخطاب الأوروبي والغربي تجاه اللاجئين. وفي هذا الإطار، يمكن أن تؤدي هذه التغيرات إلى عدد من التداعيات المحتملة المتمثلة فيما يأتي:
1– طلب الدعم المالي الطارئ: فمن المحتمل ألا تتمكن بعض الدول المستضيفة للاجئين أوكرانيين من تحمل تكاليف الاستضافة، ومن ثم، ستطالب بالحصول على دعم مالي خارجي؛ فمع تزايد الضغوط على الميزانية العامة لعدد من دول الجوار الأوكراني – وعلى رأسها مولدوفا وبولندا ورومانيا – تقدمت هذه الدول بطلب دعم مالي عاجل من دول الاتحاد الأوروبي، والمنظمات المعنية باللاجئين، وعلى رأسها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
2– تخيير اللاجئين بين العمل والمساعدات: خلال الأيام الأولى من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، أعلن الكثير من المواطنين الأوروبيين عن رغبتهم في استضافة عدد من اللاجئين الأوكرانيين الفارين من الحرب، إلا أن هذا الوضع بدأ في التغيير؛ فقد سارع عدد من المواطنين البريطانيين والألمان إلى سحب طلبات الاستضافة، ومطالبة اللاجئين المقيمين معهم إلى البحث عن أماكن أخرى للإقامة بها، مبررين ذلك بعدم مقدرتهم على تحمل تكلفة إقامتهم معهم بعد الآن. بل وصل الأمر إلى حد حث عدد من الحكومات – وعلى رأسها حكومة التشيك – اللاجئين الأوكرانيين على العمل، والبحث عن مصدر للرزق؛ حتى لا يتم إخراجهم من البلاد، أو جعلهم غير مستحقين للدعم الحكومي، والإقامة في الملاجئ التي وفرتها الحكومة لهم.
3– البحث عن مجتمع بديل: تجنباً لتصاعد الضغوط على المرافق العامة، وتزايد الشعور المعادي للاجئين في المجتمعات المحلية، قررت بريطانيا خلق وطن بديل لاستضافة أفواج اللاجئين الأوكرانيين، وقد وقع الاختيار على الدولة الإفريقية رواندا. وعلى الرغم من الانتقادات الكبيرة التي وُجهت للحكومة البريطانية بفعل تبني هذه السياسة، فإن تصريحات المسؤولين البرلمانيين تؤكد أنه لا رجعة في هذا الخيار. وقد طالب البرلمان أيضاً حكومة إيرلندا بتطبيق ذات السياسة، خاصةً على اللاجئين الأوكرانيين الذين وصلوا البلاد بطرق غير مشروعة، عبر ما تسمى قوارب “الموت”؛ وذلك عقب رفض الأخيرة وضع أي قيود على حركة اللاجئين الأوكرانيين الفارين من الحرب.
4– دفع اللاجئين إلى العودة إلى وطنهم: مع تراجع موجة التعاطف العام مع اللاجئين الأوكرانيين، وتزايد أيام الانتظار للحصول على أي مساعدات من الحكومات الأوروبية، فضَّل عدد من اللاجئين الأوكرانيين العودة إلى وطنهم والتعايش مع أوضاع الحرب التي لا تزال قائمة في البلاد. وقد جرى رصد هذه الظاهرة في كل من إيطاليا وبريطانيا ودول بحر البلطيق وبولندا وبلغاريا والتشيك، وفقاً لموقع “Info Migrants” المتخصص برصد أوضاع اللاجئين في جميع أنحاء العالم، ومجلة “إيكونوميست”.
5– تصاعد الضغوط على كييف لقبول أي تسوية: ربما تدفع أزمة اللاجئين، بخلاف التداعيات السلبية للحرب الأوكرانية، نحو تعزيز الخطاب المتصاعد في الغرب بضرورة ممارسة المزيد من الضغوط على كييف من أجل قبول أي تسوية مع روسيا لإنهاء الحرب. وعبر عن هذا الخطاب عدد من السياسيين الغربيين، على غرار رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق وزعيم حزب “إلى الأمام إيطاليا” سيلفيو برلسكوني الذي طالب “أوروبا بإقناع السلطات الأوكرانية بقبول المطالب الروسية لحل النزاع”. كما صرح السياسي الأمريكي الشهير ووزير الخارجية الأسبق “هنري كيسنجر” بأن أوكرانيا “عليها أن تتخلى عن بعض الأراضي لروسيا”، وحذر الغرب من “مُحاولاته المُستمرة لإلحاق الهزيمة بالقوات الروسية في أوكرانيا؛ لما يمكن أن يترتَّب على ذلك من عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد”.
خلاصة القول أن طول أمد الأزمة الأوكرانية يُنتج العديد من التحولات، سواء على مستوى العمليات العسكرية القائمة داخل أوكرانيا وخرائط السيطرة، أو حتى على مستوى القضايا المتصلة بالصراع، وفي مقدمتها قضية اللاجئين الأوكرانيين؛ فالوقت لن يكون في صالح هؤلاء اللاجئين؛ لأن المجتمعات الغربية التي رحبت في بادئ الأمر باستضافتهم، قد تضيق ذرعاً بهم، لا سيما مع التكلفة الباهظة التي تتحمَّلها هذه المجتمعات في خضم أزمة اقتصادية ممتدة تدفع الكثير من المجتمعات إلى التفكير في مصلحتها أولاً بعيداً عن الاعتبارات الإنسانية.