بعد الثمانين.. بقلم: عدلي صادق
من بين الحكايات الكثيرة عن إدمان طاعنين في السن، أفزعهم ترك مناصبهم، ليس أطرف من حكاية تشبث ونستون تشرشل بموقعه في الحكم بعد الثمانين، وتعرضه للسخرية بسبب ذلك، وهو الداهية الذي عُرف كشخصية مركزية في التاريخ الاستعماري البريطاني. وما يضفي عنصر الطرافة على حكاية كل متشبث هو وجود شخص آخر داخل الحكم يتعجل مغادرته أو موته ويمارس ضده النميمة، مثلما كان أنتوني إيدن وزير الخارجية في سنة 1953. فهذا الأخير بلغ الستين، بينما تشرشل رئيس الحكومة جاوز الثمانين، وازداد حدة وانفعالاً وقيل في تفسير ذلك إنه بسبب ضعف حاسة السمع، وذلك من أعراض الشيخوخة. بل إن بعض المعلقين عللوا نزعة التشبث بالسلطة، بكونها رد فعل سيكولوجي على تغير الزمن لغير صالح الرجل الثمانيني، فلوحظ عليه الغضب اليومي من التطورات ومن مطالعة التقارير.
قبل أن تبدأ المباحثات مع مصر التي انتهت باتفاقية الجلاء، كان تشرشل حانقاً على الضباط الذين تسلموا الحكم بعد يوليو 1952 بسبب اشتراطاتهم بخصوص المفاوضات في شكلها ومضمونها. كان يسميهم عصابة الضباط، أو حكم العسكر، وهي التسمية نفسها التي اعتمدها آخرون. وعلى الرغم من ذلك كانت إحدى اشتراطات عبدالناصر التي لم يتنازل عنها ألا تجري المباحثات باللباس العسكري لأي من الوفدين، تفاديا لخلق البريطانيين انطباعاً بأنها مباحثات عسكرية تتعلق بإعادة تموضع مثلما كانوا يريدون، بينما هي بالنسبة إلى المصريين محادثات سياسية لإجلاء قوات احتلال. وكانت مثل هذه النقاط تستثير تشرشل في تلك السن المتقدمة، لأن طنينها في أذنه كصوت يقول له إن زمنك قد ولّى، وستسمع ما لم تتوقع سماعه في حياتك.
في نهايات عهد الرئيس الأميركي روزفلت، كان تشرشل شديد الغيظ من الأميركيين، ويراهم متعجلين لوراثة مناطق النفوذ البريطانية، ومتواطئين مع الحركات التي تعمل على طرد حلفائهم الإنجليز. وكان السفير الأميركي في القاهرة جيفرسون كابري من أبرز المتهمين بإبلاغ أسرار البريطانيين لضباط يوليو في بداية عهدهم. أما أنتوني إيدن فكان يقول “لقد بلغت الستين، وإن لم آخذ فرصتي الآن، لكي أتحمل المسؤولية فمتى آخذها؟”. وساءت العلاقة بين تشرشل ووزير خارجيته إيدن، وتدخل وسطاء من حزب المحافظين بين الرجلين لكي يتفقا على موعد ترك تشرشل لموقع رئيس الحكومة. لكن العجوز ظل يتملص، وفي الوقت نفسه يشكو من عبء المسؤولية ومشقتها ويتأفف كذباً. ولما نجحت مجموعة من الوسطاء في انتزاع تعهد منه بالمغادرة قبل بدء سنة 1953، وإذا بصديقه القديم من أيام الحرب، الجنرال أيزنهاور يفوز بالرئاسة الأميركية في نوفمبر 1952، فوجدها فرصته لكي يقول في اجتماع حزبي “صاحبي بلا خبرة سياسية، وأنا الذي سيأخذ بيده لكي نقود الغرب إلى السيطرة على العالم، وأخشى في الحقيقة عليه من التورط مع الروس أو مع غيرهم”. أُحرج أعضاء الحزب ولم يجدوا جواباً، لكن أحد النمامين من بينهم قال “لم يكن بمقدورنا تكتيف رئيس الوزراء بالحبال وإخراجه عُنوةً من 10 داوننغ ستريت”!
ربما يكون الأشد فزعاً من مغادرة السلطة هم أولئك الذين اتكأوا على سلطاتهم وتجبروا، فتراهم مع التوغل في الشيخوخة يهربون من لحظة المغادرة، خشية أن يجدوا أنفسهم بلا سلطة فيختنقون. أما الذين عاثوا فساداً في بلادهم، فهؤلاء أكثر استفزازاً لأنهم فاشلون بلا مواهب أو مناقب. تتدحرج كل خياراتهم إلى الحضيض، ويتوسلون المساندة من الجار عبدالمعين، بينما عبدالمعين نفسه أحوج إلى من يعينه!
عدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني – المقالا نقلا عن صحيفة العرب