العلاقات القطرية الروسية على المحك مع استمرار حرب أوكرانيا
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وجدت دول مجلس التعاون الخليجي نفسها تحت الأضواء الدولية بشكل مباشر، فالدور الهام الذي تلعبه هذه الدول في سوق الهيدروكربونات العالمية، وكذلك أهميتها الجيوسياسية وقوتها الاقتصادية، ساهمت في اهتمام العالم بكيفية تفاعلها مع النزاع.
ومن الواضح أن “لحظة أوكرانيا” قد تكون حاسمة لمستقبل علاقات روسيا بدول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإن التأثير المحتمل لحرب أوكرانيا على العلاقات الروسية القطرية له أهمية خاصة، حيث أظهرت الدوحة بشكل أكثر صراحة موقفها من خلال إدانة الإجراءات الروسية وإظهار دعم أوكرانيا.
وفي يوم الغزو، غرد الرئيس الأوكراني “زيلينسكي”: “أواصل المفاوضات مع القادة [قادة قطر].. وقد تلقينا الدعم من أمير قطر”. وحضر منتدى الدوحة الذي استضافته قطر في 26-27 مارس/آذار الماضي ممثلون من أوكرانيا والدول الغربية، ولكن المنتدى لم يضم ممثلين رفيعي المستوى من روسيا.
وقد يلقي ذلك بظلال من الخطر على العلاقة الثنائية بين الدوحة وموسكو على المدى القصير إلى المتوسط.
وفي الواقع، نحن أمام سيناريوهين؛ إما أن يتسع الصدع بين قطر وروسيا ويتم تخفيض العلاقات، أو تكون البراجماتية والمصالح المشتركة قادرة على الحفاظ على العلاقات في مواجهة العواصف.
السيناريو الأول: تخفيض العلاقات
من المرجح أن يحدث شرخ في العلاقات بين قطر وروسيا بسبب المنافسة الاقتصادية الناشئة بين الدولتين. وفي الواقع، أصبحت قطر واحدة من أفضل الأبواب أمام أوروبا لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
وبدأت ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا محادثات مع قطر لشراء الغاز الطبيعي المسال على المدى الطويل. ووافقت ألمانيا بالفعل على شراكة طاقة طويلة الأجل مع قطر، بالرغم أن هناك بعض التعقيدات التي قد تؤثر على هذا الترتيب.
وقال “نيكولاي كوزانوف”، الأستاذ المشارك في مركز دراسات الخليج بجامعة قطر، في مقابلة مؤخرا: “على المدى القصير، من غير المحتمل أن تتمكن دول الخليج من زيادة صادرات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي بشكل كبير. ومع ذلك، يجري التجهيز ليكون الشرق الأوسط لاعبا رئيسيا في سوق النفط والغاز الأوروبية، وفي غضون السنوات الـ5 إلى الـ7 المقبلة، قد يؤدي ذلك إلى انخفاض في الحصة الروسية”.
وفي حين أظهرت الدوحة بالفعل استعدادها لمساعدة الدول الغربية على مدار الأشهر الـ6 الماضية، ما تزال هناك قيود على قدرة قطر على زيادة الصادرات. وستستمر هذه العقبات في عرقلة جهود أوروبا لفك الارتباط بالغاز الروسي. وسيزيد ذلك من الضغط على الدول الغربية، خاصة مع مطالبة موسكو بدفع تكلفة الغاز الروسي بالروبل.
يبقى أن نرى كيف ستستجيب أوروبا لهذه التطورات، كما يبقى أن نرى كيف ستؤثر العقوبات الغربية ضد قطاع الطاقة الروسي على النظام المالي العالمي. وفي الأسابيع الأخيرة، سعت روسيا للالتفاف على النظام المالي الذي يهيمن عليه الدولار – بما في ذلك إمكانية استخدام عملة الرينمينبي الصينية لبيع الغاز والنفط في الخارج.
أما قطر، التي تسعى إلى توسيع صادراتها من الغاز الطبيعي المسال والحفاظ على نظام سوق النفط الحالي، فربما ترى تصرفات روسيا باعتبارها لا تصب في مصالحها طويلة الأجل. علاوة على ذلك، أدى التعاون الأمني الممتد بين قطر والولايات المتحدة إلى انحياز الدوحة غالبا إلى واشنطن. وللسبب نفسه، انجرفت الدوحة بعيدا عن موسكو.
ومؤخرا، صنفت إدارة “بايدن” قطر كـ”حليف رئيسي من خارج الناتو”، كما أن جهود الوساطة القطرية – بما في ذلك التواصل بين الولايات المتحدة وطالبان في أفغانستان – تجسد عمق العلاقات الأمريكية القطرية والطبيعة المتبادلة للعلاقة. وقد تؤدي الأزمة الأوكرانية إلى انحياز قطر بشكل أكبر إلى الولايات المتحدة، حيث سترى أن مخالفة شريكتها القوية أكثر تكلفة من الانحياز إليها.
وبالنظر إلى ذلك، يمكن أن يحدث تخفيض للعلاقات بين موسكو وقطر على المدى القصير والمتوسط، ما يدفع الدوحة أكثر تجاه الغرب. وقد يؤثر ذلك بدوره على الحسابات الاستراتيجية لجيران قطر.
وبالرغم أن العلاقات بين الدوحة والعديد من الممالك الخليجية كانت تتعافى مؤخرا، لكن العديد من الدول الأعضاء في دول مجلس التعاون الخليجي ما تزال حذرة من الدوحة. وسيفتح تقارب قطر المستمر مع الولايات المتحدة الأبواب لجيران قطر (مثل السعودية والإمارات)، والذين أظهروا حتى الآن حيادا ملحوظا تجاه أزمة أوكرانيا، كي يطوروا العلاقات مع دول أخرى على جانبي النزاع.
السيناريو الثاني: الحفاظ على العلاقات البراجماتية
هناك سيناريو ثان تحتفظ بموجبه قطر وروسيا بمستوى طبيعي من الاتصال والعلاقات الثنائية الصحية، وسيكون ذلك في مصلحة الدولتين، بالنظر إلى الطريقة التي ينخرط بها الطرفان دبلوماسيا في المنطقة، وسوف تتعزز مثل هذه الصفقة بالتجارة الثنائية والاستثمار.
وتسيطر هيئة الاستثمار القطرية على حصص في شركة “روسنفت” النفطية الروسية، وحصة بقيمة 500 مليون دولار في بنك “VTB”، وحصة 25% في مطار بولكوفو في سانت بطرسبرج. وحتى الآن، تمسكت هيئة الاستثمار القطرية بهذه الأصول.
وكما أشار “كوزانوف”: “الدوحة غير مهتمة باستخدام مواردها الاقتصادية كوسيلة للنفوذ السياسي أو الإكراه. قد يؤدي ذلك إلى إلحاق الضرر بمبدئها بالبقاء قوة محايدة جاهزة للتوسط في النزاعات الدولية”.
وبالرغم أن الدوحة تظهر كأنها اتخذت موقفا صريحا ونهائيا من النزاع، فإنها ترغب بقوة في البقاء لاعبًا دبلوماسيًا رئيسيًا. وكما شرح البروفيسور “مهران كامرافا” في كتابه “قطر: دولة صغيرة.. سياسة كبيرة”، فإن السياسة الخارجية لدولة قطر تميل للتحوط بعيدا عن الاعتماد على قوة واحدة.
وبعبارة أخرى، تحب قطر أن تكون صديقا للجميع، إن أمكن. وكجزء من هذه السياسة، طورت قطر علاقات سياسية مع الولايات المتحدة وإيران وحركة “طالبان” ومجموعة من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية الأخرى. لذلك، فإنها ستواصل اتباع هذا السلوك للحفاظ على العلاقات مع روسيا، حتى في وقت النزاع.
تحول في سياسات روسيا؟
تقف العلاقة القطرية وروسية على أرض مهتزة، ولا يمكن حاليا الحسم بشأن اتجاه العلاقات سواء الانهيار أو التماسك.
وسيكون الخيار الأول سابقة تاريخية لروسيا ما بعد العصر السوفييتي، حيث سيشير خفض العلاقات مع قطر إلى تحول سياسات روسيا الحديثة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فعلى عكس النهج السوفييتي الصفرى تجاه حلفاء الشرق الأوسط، اتبعت روسيا الحديثة استراتيجية “المكسب للطرفين” تجاه دول المنطقة وذلك لتعزيز المصالح الروسية.
وعلى سبيل المثال، تحافظ روسيا الحديثة على العلاقات مع تركيا وإسرائيل في الوقت الذي تدعم فيه نظام “الأسد” في الحرب السورية. وبنت موسكو علاقات جيدة مع دول مجلس التعاون الخليجي، على الرغم من الخلافات الجيوسياسية بين هذه الدول.
وإذا أصبحت روسيا أكثر انتقائية، فقد تعتبر موقف قطر من حرب أوكرانيا بمثابة موقف من روسيا بشكل عام ويصبح ذلك مبررًا لتقليل العلاقات. لكن هذا ليس الحال، فاستثمارات الدوحة في روسيا وكذلك سمعتها كوسيط، قد تساعد في تجنب الوقوع في هذا التمزق الدبلوماسي.
لذلك ستحاول قطر وروسيا الحفاظ على العلاقات الثنائية والتعاون البراجماتي قدر الإمكان. وفي الواقع، قد تكون الكيفية التي ستتطور بها العلاقات بين قطر وروسيا مؤشرا على المسار المستقبلي للسياسة الروسية تجاه الجهات الفاعلة المهمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد حرب أوكرانيا.