قنبلة “ديون” تهدد اقتصاد العالم.. الأكبر في التاريخ

قنبلة الديون تهدد الاقتصاد العالمي بالانفجار
قنبلة الديون تهدد الاقتصاد العالمي بالانفجار

على مر التاريخ شهد العالم العديد من الأزمات المالية بطلها الارتفاع القياسي في فاتورة الدين، ولكن اليوم قد ينجو العالم من تكرار تاريخه.

ويرى البنك الدولي أن موجات تراكمية سابقة للديون آذت الاقتصاد العالمي بشدة، وأن موجة الديون الحالية هي الرابعة خلال خمسين عامًا، ووصفها بأنها “الأكبر والأسرع والأوسع قاعدة” من بين كل موجات الديون السابقة.

وجاءت المخاوف من الركود خلال تفشي كورونا لتقود الكثير من دول العالم نحو الاقتراض بشكل مكثف من الخارج، وتيسير عمليات الإقراض داخليا، بهدف تنشيط الاقتصاد وتجنب الوقوع في براثن الدورات الاقتصادية الانكماشية مع القيود التي فرضتها عمليات الإغلاق في مختلف الدول على النشاط الاقتصادي.

 

ومع تعافي الاقتصاد العالمي من الوباء، تقترب العديد من البلدان النامية من التخلف عن سداد ديونها في ظل بلوغها نسباً قياسية ورغبة تلك الدول في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي فيها مع سداد ما عليها من استحقاقات وتعارض الهدفين في الكثير من الأحيان.

السبعينيات.. الموجة اللاتينية

بدأت العديد من دول أمريكا اللاتينية في سبعينات القرن الماضي تقترض بشكل مكثف من البنوك التجارية الأمريكية بغية دعم نموها الاقتصادي.

ولكن الاستمرار في الاقتراض، مع عدم سداد الديون السابقة، جعل الدين يرتفع من 29 مليار دولار في عام 1970 إلى 159 مليار دولار عام 1978 قبل أن يبلغ 327 مليار دولار عام 1982.

وفي الثمانينيات بدأت الاقتصادات الرئيسية في رفع معدلات الفائدة لمقاومة التضخم المتعاظم وقتها، بما أدى لانسحاب الاستثمارات من الدول اللاتينية للذهاب للاقتصادات الرئيسية.

ومع ارتفاع معدلات الفائدة بدأت أزمة ديون الدول اللاتينية في الطفو على السطح من خلال إعلان المكسيك أنها لن تكون قادرة على سداد ديونها أو حتى مصاريف خدمة الديون.

واضطرت العديد من الدول لإضعاف عملتها المحلية أمام الدولار حتى تجعل سلعها على قدر من الجاذبية فتستمر في التصدير والحصول على العملات الأجنبية لتبقى قادرة على سداد ديونها ومن ذلك تخفيض الأرجنتين لقيمة عملتها المحلية بنسبة 40% والمكسيك بنسبة 33% والبرازيل بنسبة 20% وذلك بين عامي 1981 و1983.

وفي النهاية خلال الموجة الأولى للديون اضطرت 29 دولة لإعادة جدولة ديونها (فيما يشبه إعلان الإفلاس لبعضها) من بينها 16 دولة لاتينية ولذلك تعرف موجة الديون العالمية الأولى بالموجة اللاتينية، وحدثت اضطرابات اجتماعية واقتصادية عنيفة في العديد من تلك الدول.

الديون والاقتصاد العالمي

 

1990-2001.. موجة “النمور الآسيوية”

وجاءت الموجة الثانية بين عامي 1990-2001 وكان للقطاع الخاص الدور الأكبر فيها، وذلك بعد قرارات الدول الغربية بإعادة تنظيم البنوك بحيث تصبح مؤسسات “ذات طابع عالمي” بما أسهم في ظهور حركات واسعة لرؤوس الأموال، ولا سيما تجاه ما يعرف وقتها بـ”النمور الآسيوية”.

ومع نشوب أزمة مالية في المكسيك، أعادت إلى الأذهان أزمتها السابقة والتي تسببت في موجة الديون الأولى، بدأت سلسلة تفاعلات أنتجت أزمة الديون الثانية.

فعلى الرغم من أن برنامج إنقاذ قيمته 50 مليار دولار مولته الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي أنقذ المكسيك ولو مؤقتا من الأزمة إلا أنه لم يحل دون انتشار الذعر في أسواق أخرى.

فقد استفحلت الأزمة في دول جنوب شرق أسيا، لا سيما إندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين وتايلاند التي شهدت عمليات سحب واسعة لرؤوس الأموال تسببت في انهيارات سريعة أو ما يعرف بأزمة “انهيار أسواق المال الآسيوية”، ولولا تدخل الصين القوي بدعم الدول المتعثرة في هذا الوقت لكان للأزمة تأثيرات أوسع وأشد أثرا.

الموجة الثالثة.. “ميجا بنك”

أما الأزمة المالية الثالثة فجاءت بعد قرار الولايات المتحدة بإزالة الفواصل بين البنوك التجارية والاستثمارية، وفي أوروبا بإزالة الحدود بين المقرضين وجعل القروض عابرة للحدود.

وأدى هذا لظهور مؤسسات التمويل العملاقة أو ما يعرف بالـ”ميجا بنك” والتي منحت القروض على نطاق واسع بلا ضمانات كافية وتسببت بالنهاية في أزمة الرهن العقاري.

مقر الاحتياطي الاتحادي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي)

 

الأزمة الحالية

أما الأزمة الحالية فلها العديد من الأركان وليس ركنًا واحدًا، لذا يصفها البنك الدولي بأنها “الأوسع قاعدة” بين أزمات الديون خلال الخمسين عاما الماضية.

فتصف دورية “فورين بوليسي” أزمة “كورونا” بأنها بدأت كأزمة صحية ولكنها “تحورت” لتصبح أزمة اقتصادية بالأساس مع بلوغ الديون مستويات قياسية، وسط تحذيرات من المزيد من ارتفاع الديون بفعل الأزمة الأوكرانية وتداعياتها في المرحلة المقبلة.

فمع بلوغ الديون العالمية ما نسبته 353% من إجمالي الناتج المحلي العالمي بدا واضحا أن الأزمة لا تتعلق فقط بالديون الحكومية أو تلك التي تعرف بالديون السيادية، بل يمتد الأمر لتشمل القروض الشخصية وتلك الخاصة بالشركات والهيئات.

ويأتي النمو الكبير للغاية لديون الاقتصادات النامية والناشئة في صدارة العوامل المثيرة للقلق في أزمة الديون الحالية. فهذه الاقتصادات تمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وقبل أزمتي كورونا والحرب الأوكرانية كان العديد منها بالفعل يقف على أرض غير مستقرة في أعقاب عقد من ارتفاع الديون.

وأدت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) إلى زيادة المديونية الإجمالية إلى أعلى مستوى لها في 50 عامًا وجعلت مستوى الديون الحكومية لتلك البلدان يعادل أكثر من 250% من الإيرادات الحكومية.

وما يقرب من 60% من أفقر البلدان كانت بالفعل تعاني ضائقة ديون أو معرضة بشدة لخطرها، وبلغت أعباء خدمة الدين في البلدان المتوسطة الدخل أعلى مستوياتها في 30 عاما، بما يجعل الكثير منها معرضا لمخاطر التخلف عن السداد ما لم يتمكن من التواصل مع الدائنين لإعادة جدولة الديون (والتي تتم بأعباء إضافية).

ديون مختلفة

وتواجه هذه الدول أزمة تتعلق بتغير هيكل ديونها بشكل يجعل التخلف عن السداد صعبا ومُكلفا للغاية مقارنة بما اعتادته تلك الدول من قبل.

فقبل ثلاثين عامًا كانت الاقتصادات النامية مدينة بمعظم ديونها الخارجية لحكومات دول أخرى أي إن الديون كانت بمثابة ديون ثنائية بين دولتين، وكان غالبية الدول المانحة للقروض أعضاء في نادي باريس الذي يوفر مظلة لإعادة التفاوض على شروط القروض ومد آجال السداد حال التعثر.

أما في نهاية عام 2020، فكانت الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل مدينة بخمسة أضعاف ما كانت تدين به للدائنين الحكوميين من جهة وأصبحت غالبية الديون لصالح جهات استثمارية خاصة من جهة أخرى.

وفي 2022 فمن بين 53 مليار دولار تقريبًا ستحتاجها البلدان منخفضة الدخل لتسديد مدفوعات خدمة الديون على ديونها العامة والمضمونة من الحكومة، سيذهب 5 مليارات دولار فقط إلى دائني نادي باريس والبقية تذهب إلى دائنين آخرين أغلبيتهم استثماريون من حملة السندات والبنوك العملاقة وغيرهم.

علاوة على ذلك، فإن الكثير من ديون الاقتصادات النامية تم اقتراضه على أساس أسعار فائدة متغيرة وفقا لتغير أسعار الفائدة في البنوك المركزية المرجعية (أي التي تجعلها اتفاقية القرض مرجعية للفائدة المتغيرة) بما يجعل عبء خدمة القروض يزيد باستمرار في الوقت الحالي مع اتجاه عالمي لرفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم.

ولذلك فقد أصبحت قدرة الكثير من الدول على التخلف “الناعم” عن تسديد الديون من خلال مفاوضات تتم خلف الأبواب المغلقة، وتنتهي دون إثارة الذعر في الأسواق محل شك بما جعل بعض المحللين يرون أن أزمة الديون الحالية تحتاج لتخلف دولة واحدة “متوسطة” عن سداد ديونها (مثل المكسيك في السبعينيات) لكي تنفجر أزمة الديون بكل ثقلها.

هل رفع الفائدة إيجابي؟

وهناك أيضا نمو لافت في مستوى القروض الشخصية التي تقدر حول العالم بنحو 55 تريليون دولار وسط أسعار فائدة متدنية للغاية خلال السنوات الماضية جعلت الاقتراض منخفض التكلفة للأفراد والشركات والدول على حد سواء.

ولذلك يرى البعض أن رفع البنوك المركزية حول العالم لمعدلات الفائدة من شأنه أن يدعم الحد من شراهة الحصول على الديون التي وصلت لمستويات قياسية بالفعل، وهو أثر محتمل لأنه سيجعل الاقتراض أعلى كُلفة.

ولكن في الوقت نفسه سيعني هذا زيادة تكلفة خدمة الديون على الكثير من الدول بما قد يجعلها تعجز عن السداد لا سيما مع ارتفاع تكلفة الاقتراض، والذي اعتادت بعض الدول النامية التعامل معه بوصفه حلًا لتعثر سدادها عن ديون سابقة، بمعنى الاقتراض لسداد القروض السابقة.

لذا فإن الارتفاع المفاجئ والحاد في تكلفة الاقتراض قد يُعجل بظهور بلد أو أكثر يعجز عن سداد ديونه ويعلن ذلك، بما قد يُفجر أزمة الديون الرابعة خلال الخمسين عامًا الأخيرة والتي نُذكر بأن البنك الدولي نفسه يعتبرها “الأكبر والأوسع قاعدة” بما يجعل تداعياتها المتوقعة متناسبة مع حجمها الكبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى