بين هشام السلاموني.. وزيلا البربرية – بقلم: د. أيمن السيسي
اقتربت يوما في الصحراء من الموت، وقتها لم أشعر بحاجتي إلى إنسان قدر شعوري باحتياجي إليه .. الكاتب المبدع أستاذي وصديقي الدكتور هشام السلاموني.
لم أدر وقتها سوى إنى أحتاج إلى رفرفة روحه حولي لتعيد الأمل إلى قلبي وتصنع لي سلما للسماء التي رحل إليها قبل أن تبتل شفتيه بزغرودة نذرها عندما يسقط حسنى مبارك.
كنتَ يا استاذي توقن أنه ساقط بحسك التاريخي الذي تكون من ثقافتك ودورك كواحد من “الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات” (له كتاب بهذا العنوان) كنت تؤكد سقوطه.
كان أستاذي وصديقي الدكتور هشام السلامونى رغم إحباطات الواقع وأكثر من خمسين سيجارة يدخنها في اليوم ومحاولات تهميشه، قادر على التفاؤل، يؤمن أن مصر ستتغير ولن تقبل بالولد الصايع ابن أمه كي يكون حاكما عليها.
أوصاني الدكتور هشام -ضمن من كان يبثهم شجونه ويوصيهم – بمصر، أن أحاول أن أضيف إليها، ولو شيئا صغيرا أو أقدم لها من روحي بعض الذي أخذت منها.
قال لي: حتى ولو لم تحصل منها سوى على ما كتبه لك حسن حميد (روائي فلسطيني مبدع وعظيم) في إهدائه على غلاف روايته “مدينة الله”.. إلى صديقي الرائع أيمن السيسي، ماء النيل الرواء.. سمار شمسها الأبدي.
أشار لي أستاذي هشام السلاموني على الإهداء بعد أن فرغ من قراءة الرواية قائلآ: انظر، ماء النيل الرواء، سمار شمسها، سجله لك حسن حميد في إهداء عفوي، وأضاف: مصر هي أنت وأنا وأولادنا .. إذا حافظت عليها حافظت علينا وعليهم.
وأوصاني لا تمت بعيدًا عنها في متاهات الصحراء لأني أعرف محبتك للبيداء.. والأن ها أنا غارق في الرمال جنوب الصحراء الكبري …. ” خفت أن أقتل، كما كان متوقع يومها، وأنا الذي “لا أحب النجاة من الموت”.
لكني شعرت باحتياجي لمصر، وحتمية الموت فيها، وإن مت من أجلها في منافي الصحراوات البعيدة يوما، فلتعذرني روح صديقي وأستاذي هشام السلاموني، الغائب في السماء.. الحاضر في التاريخ وفي القلب .. أخبرني سائق سيارة التهريب ونحن نعبر ممر “سلفادور” في شمال النيجر أن “الإخبارية” التي حملتها ريح الصحاري اليه أننا هالكون مقتولون.
استلقيت على ظهري أحملق في السماء باحثا عن نجمة شمالية وحيدة كانت ترافقني في صحراوات بلادي في ليال كثيرة،… فلم أرها انسحبت إلى ليل بلدي في هستيرية غنائية.. تنويعات تحمل رائحتها وهبات نسيمها وعبق طينها: في أغاني قديمة كنت أسمعها طفلا فتحمل لي شكل القري وريحتها، “يا مه يا هوايا يامه.. الهواء بعتر ضفايرى..
إيه قصده معايا يامه “وأخرى” يا خد حبيبي يا أنا يامه.. ياخد حبيبي يا بلاش.. زارع في القلب وردة.. والنبي يامه ما تقطفيهاش.. شغلا له يا مه بايدى الطاقية.. وإزاى يا مه.. إزاى يا امه مايلبسهاش “سمعتها مرة في زيارة لزملاء الثانوية عندما زرتهم في جامعة طنطا لكن بكلمات طلابية على طريقة “المعارضة” فنقلتها إلى مدرج جامعتي في بيروت، فأصبحت نشيدا صباحيا لنا حين نتسكع في شارع الجامعة العربية في الكولا -بيروت- ، ونغنيها أثناء صعودنا درجات السلم إلى قاعة المحاضرات أو في الحافلة التي تحملنا إلى منازلنا في “سوق الغرب” و”بحمدون”.
ياخد زميلي يا انا يا مه .. ياخد زميلي يابلاش
قاعد في البنج جنبي.. والنبي يا امه ما تفريقناش ..
كتباله يا مه بإيدى المحاضرة .. وازاى يا مه ما ينقلهاش.
كانت أبرع زميلاتي في غناءها “ميسون نظام الشمعة”.. كانت أجملهن وأطيبهن رائحة.. تحمل مثلي رائحة الجرود وعبق طين الأرض، روحها تشبه روح رفيقتي الطارقية في رحلة الهرب “زيلا” الصامتة هلعا.
ظللت طول الليل اقرأ قرأنا للتحصين، وفاتحة الكتاب على روح أستاذي المبدع العظيم هشام السلاموني، متذكرا أول مرة ألتقيته في معرض الكتاب عندما عرفني عليه أخي وزميلي محمد العكاوي -خسرته الصحافة وكسب هو مبكرا عندما ابتعد عنها مختارا مهنة أكثر دخلا وأمانا- ظللت أقرأ وأغني حتى أشرقت الأرض بنور ربها وعلت شمس الضحى وحمت، نظر لي السائق ولد بوعماتو في صمت عاتب، وجودي معه سيكون سبب قتله، فابتسمت لي زيلا وغنت أغنية طارقية ورشت على وجهي ماء وهي تقول: هنا سنقتل، وضحكت، فغنيت “قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن حبيب القلب صابح ماشى.. “التي غناها المصريون صبيحة إعدام الدكتور إبراهيم الورداني في حر يونيو عام 1910.
بدت زيلا برغم الهم والخوف من القتل نمرة طارقية جريئة وأبية، لكنها ناعمة مثل سوافي الصحراء التي حملتها عاصفة شديدة السرعة، فأشارت لي أن أحكم لف اللثام -الذي منحنيه أمير باسكنو عبد الله ولد سيدي حننا – حول وجهي.
شعرت بأن العاصفة داخلها هي ولكن متى وفي أي اتجاه ستهب ؟ وبمن ستعصف. ؟ وافقت السائق على العودة الى تمبكتو خوفا عليها وكأني أخاف أن افقد استاذي هشام السلاموني مرة أخرى معللا لنفسي بكلمات الحسن الوزان “ليو الإفريقي” عن تمبكتو “الوصول اليها سر أسرارها”.