لبنان.. تنافس داخل البيت السني على مرحلة ما بعد الحريري

في يوليو/تموز الماضي، اعتذر رئيس الوزراء اللبناني الأسبق “سعد الحريري” عن رئاسة الحكومة بعد فشله في تشكيلها. وفي يناير/كانون الثاني 2022، أعلن انسحابه من السياسة تمامًا وأكد أنه لن يخوض الانتخابات المقبلة، مما يخلق فراغًا كبيرًا في المجتمع السني اللبناني الذي قاده “الحريري” ووالده منذ عام 1992. وحاليا، يكافح الكثيرون لملء الفراغ بمن في ذلك شقيقه الأكبر “بهاء”.

وفي 23 فبراير/شباط الماضي، عقد رئيس الوزراء اللبناني الأسبق “فؤاد السنيورة” مؤتمرا صحفيا دعا فيه السنة إلى عدم مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في 15 مايو/أيار المقبل. واعتبر “السنيورة” أن التصويت واجب وطني على كل لبناني من أجل تخفيف قبضة “حزب الله”. ويشغل السنة حاليًا 27 مقعدًا من أصل 64 مقعدًا للمسلمين وهو نفس عدد المقاعد المخصص لمسيحيي البلاد.

وكان “السنيورة”، الاقتصادي والسياسي المتمرس، هو اليد اليمنى لرئيس الوزراء الأسبق “رفيق الحريري” الذي اغتيل عام 2005. وبعد 5 أشهر، أصبح رئيسًا للوزراء حتى عام 2009، عندما حل محله نجل “الحريري” ووريثه السياسي.

وقاد “الحريري” الشاب السنة اللبنانيين على مدى السنوات الـ13 التالية حتى انسحابه نهائياً من السياسة في يناير/كانون الثاني الماضي. وألقى “الحريري” باللوم في قراره -جزئيًا على الأقل- على وصاية “حزب الله”، وقال إنه لن يترشح هو ولا أي من أعضاء تيار المستقبل للبرلمان في مايو/أيار المقبل.

ومن الأسباب الأخرى لقرار “الحريري” هو نقص الموارد اللازمة لتمويل أي حملة انتخابية في ظل توقف دعم السعودية التي كانت الراعي التقليدي لعائلة “الحريري” في السياسة اللبنانية. ويعتقد السعوديون أن “الحريري” متساهل للغاية مع “حزب الله”، وهو ما يفسر عدم تأييدهم لمحاولته الأخيرة لتشكيل حكومة في 2020-2021.

ومنذ ذلك الحين، رفض ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” أكثر من مرة مقابلة “الحريري”. ويفسر ذلك أيضا سبب عدم كون “الحريري” ثريًا كما كان في السابق. وفي الصيف الماضي، قال بصراحة على شاشات التلفزيون: “لقد اعتدت أن أكون مليونيرا، لكنني لم أعد كذلك”.

وتسبب انسحاب “الحريري” المفاجئ من السياسة في إحداث صدمة في المجتمع السني. ووجد السنة أنفسهم فجأة عاجزين تماما مما دفع “السنيورة” وزعماء سنّة آخرين إلى طمأنتهم والتأكيد على أن الفرصة ما تزال أمام السنة لترتيب بيتهم الداخلي.

وسبق أن قال مفتي لبنان “عبداللطيف دريان” أيضا إن الانتخابات المقبلة لن يقاطعها أهل السنة في لبنان. وقد صدّق على هذا البيان رئيس الوزراء الحالي “نجيب ميقاتي”، وهو رمز سني آخر ذو وزن ثقيل عاد إلى رئاسة الوزراء في سبتمبر/أيلول 2021، ليعلن في 14 مارس/آذار أنه لن يترشح هو الآخر لإعادة انتخابه.

طموح “بهاء الحريري”

من بين الأشخاص الذين يبدو أنهم يرحبون بانسحاب “سعد الحريري” شقيقه الأكبر “بهاء الحريري”، وهو رجل أعمال يعيش في السعودية. وبعد ساعات من إعلان شقيقه، خرج “بهاء” بخطاب متلفز ليعلن نفسه الوريث الشرعي لعائلة “الحريري”، وليشير أيضًا إلى أنه الزعيم السني الجديد للبنان. وأشار إلى أن أبواب عائلة “الحريري” “لن تُغلق أبدًا”.

لم يكن “بهاء”، 56 عامًا وخريج جامعة بوسطن، ناشطًا في السياسة أبدًا، بل كان يركز على توسيع الإمبراطورية التجارية لوالده منذ 2005. وقد تغير ذلك في عام 2019، عندما أيد علنا ثورة أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي أطاحت بحكومة أخيه الثالثة والأخيرة.

وفي الآونة الأخيرة، أعلن “بهاء” أنه سينضم إلى البرلمان المقبل من خلال ائتلاف يسمى “سوا للبنان”. وجرى بالفعل تعليق لوحات إعلانية في جميع أنحاء بيروت، في حين يتحرك الناشطون لجذب الناخبين من خلال الأعمال الخيرية مثل توصيل وقود التدفئة للأسر المحتاجة. وما يزال “بهاء” نفسه غير موجود في لبنان. في حين قام بتعيين صديق طفولته “صافي كالو” ممثلا سياسيا له.

وبالرغم أن “سعد الحريري” في حالة تدهور مالي، فمن الواضح أن “بهاء” ليس كذلك. وفي عام 2021، قدرت “فوربس” ثروته بـ2.1 مليار دولار. وتمكنه هذه الثروة من شراء الولاءات وتمويل حملة انتخابية مناسبة وكذلك وسائل إعلام للترويج له.

وقد اضطر شقيقه إلى إغلاق تلفزيون والدهما، “تلفزيون المستقبل”، وصحيفة “المستقبل” اليومية. وحاليا يتواصل “بهاء” مع الموظفين السابقين في كلا المنفذين، والذين تركهم شقيقه دون أجر بسبب الصعوبات المالية التي واجهها.

كما أن “بهاء” ينخرط مع شخصيات بارزة مناهضة لـ”حزب الله” مثل البطريرك الماروني “بشارة بطرس الراعي”، بينما يطالب بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي يدعو إلى احتكار السلاح في يد الدولة اللبنانية وإبعاد “حزب الله” عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

بيت منقسم

يقف “سعد” مستاءا من حملة أخيه بالرغم أنه التزم الصمت فيما دفع صديقه وحليفه الموثوق وزير الداخلية السابق “نهاد المشنوق” للتعبير عن مخاوفه، ظاهريًا بصفته الشخصية.

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، قال “المشنوق” إن “بهاء” قادم “للانتقام” من شقيقه، مضيفًا أنه “ينزل بالمظلة” إلى المشهد السياسي اللبناني الذي لا يعرف شيئًا عنه. وأشار “المشنوق” أيضا إلى أن “بهاء” ليس لديه ما يقدمه لأهل لبنان، قائلا: “طموحاته غير واقعية إطلاقا”.

وأدلى “السنيورة” بتعليق مماثل الشهر الماضي: “لا توجد عملية إرث على الإطلاق في المجتمع السني. وسعد الحريري لا يزال حاضرا”، مضيفا أن السياسي المتقاعد يمكنه العودة متى شاء.

وفي ظل حكم “رفيق” و”سعد الحريري”، كان “تيار المستقبل” ممثلاً في 10 مقاطعات لبنانية من أصل 15، بما في ذلك بيروت وصيدا وعكار وطرابلس وزحلة ووادي البقاع.

ويعلم “بهاء” أنه لا يستطيع العمل في كل هذه المناطق منذ اليوم الأول. ومع ذلك، فهو يركز على بيروت وصيدا وعكار ووادي البقاع التي تعتبر القوة التقليدية لـ”حزب الله”. ويحاول “بهاء” تحقيق انفراجة من خلال ترشيح بعض أسماء المعارضة الشيعية من مجموعات المجتمع المدني. لكن المعركة الحقيقية ستكون في العاصمة بيروت.

المعركة من أجل بيروت

من المؤكد الآن أن أيا من حلفاء “سعد الحريري” في تيار المستقبل لن يترشح في بيروت. وبدون المال، لا يستطيع أعضاء تيار المستقبل تنظيم حملة على مستوى المدينة أو توفير بعض المساعدات للناخبين، خاصة أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى هذه المساعدة الاقتصادية.

وأعلن رئيس الوزراء السابق “تمام سلام” أنه لن يترشح هو الآخر لمنصب رئاسة الحكومة. و”سلام” هو سليل عائلة سياسية سنية رفيعة المستوى هيمنت على السياسة البيروتية منذ العهد العثماني. ولن يكون قريبه “نواف سلام، القاضي في محكمة العدل الدولية، حاضرا من أجل الوقوف في وجه “حزب الله”. وبدلاً من هذه الأسماء، بدأت مجموعة جديدة من السنّة في الظهور، وكلهم ينحدرون من عائلات بيروت البارزة ويتطلعون إلى التمثيل في العاصمة اللبنانية.

وتشمل القائمة “غيداء عيتاني”، رئيسة منظمة غير حكومية متخصصة في مكافحة السرطان. و”سارة اليافي” حفيدة رئيس الوزراء السابق “عبدالله اليافي”. و”نهاد دومات” الأستاذ في الجامعة الأمريكية في بيروت. و”وليد فخر الدين”، ناشط حقوقي مشهور.

كما تضم القائمة “فؤاد مخزومي”، رجل الأعمال العصامي والبرلماني الذي خرج ببيان على “تويتر” بعد وقت قصير من انسحاب “الحريري” مؤكدا أن المجتمع السني لن يقف على شخص. وفي نفس اليوم وصف “حزب الله” بأنه ميليشيا يجب نزع سلاحها لأنها تهدد أمن المواطنين اللبنانيين. وعادة ما كان “مخزومي” يوجه انتقاداته لـ”الحريري” و”حزب الله” بنفس القدر

من ناحية أخرى، يحاول “حزب الله” التأثير على تصويت السنة في أجزاء أخرى من البلاد، مدركًا أنه لا يمكنه الفوز في بيروت. وفي سهل البقاع، يقوم الحزب بحملة مع “عبدالرحيم مراد”، وهو رجل خير ثري وصاحب جامعة ووزير دفاع سابق. وفي طرابلس، تعمل المجموعة الشيعية مع “فيصل كرامي”، وهو عضو في عائلة سياسية محترمة قدمت 3 من رؤساء الوزراء اللبنانيين السابقين.

وبسبب نفوذه المالي والعسكري، فإن حزب الله سيفوز بلا شك بأصوات المجتمع الشيعي. لكن المعركة الحقيقية ستكون بين السنة في بيروت والمسيحيين في جبل لبنان والذين ينقسمون حاليا بين التيار الوطني الحر التابع للرئيس “ميشال عون” والقوات اللبنانية بزعامة “سمير جعجع”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى