اكرام عبدي تكتب: الحب بدأ الان

أنا امرأة شارفت على الخمسين، وأعترف أن قدرتي على الحب بدأت للتو، من قال أن الحب يخبو عبر السنين، الحب جمرة متوقدة لا تنطفئ، يكفي أن تؤجج قناديل الروح والجسد كي تشعل ديمومته، ومن قال أن للحب بداية ونهاية وفصول، الحب ممتد لا يشيخ عصي على الموت، طفل ببالونات الدهشة والفضول والحماقات و الوهم والشغب . . .

الحب لا يكثرت للزمن وواقعيته ومخططاته وتفاصيله وحدوده، رومانطيقي يعلن خضوعه واستسلامه في ذروة عشقه وبكامل إرادته، يمضي في البراري بولع التيه، يسمح للقدر بأن يرفس كل مخططاته، لا يجيد الانتظار، تبهره المفاجأة والنظرة الصاعقة التي تقتحم دون سابق إنذار، ويغويه العسل المسروق في حديقة موحشة أكثر من براميل الشهد الآثمة.
ثمة حياة ما، في زمن ما، في أرض ما، ثمة نهر للحب العذب، تكفيه نظرة عشق مفاجئة صاعقة، كي توقظه من غفوته و تلقي به في دوائر رقص صوفي لا ينتهي، ثمة عاشق ينقر بأنامله الولهى على بابك، ينتظر إطلالتك، لمعي عينيك بنجمتين، ووجنتيك بكرزتي شغف، وألبسي يديك خفق أجنحة، وحلقي في سماوات الحب بارتعاشة الفرح، فما عدت بانتظار أرض تأويك، ولا عرش يرفعك، حبك سكنك وسكينتك وملكك.

في الحب لا تنفضي الغبار عن خيباتك السابقة، ولا تفكري في الشفاء منها، فكري في اللحظة العاشقة التي قد تباغثك دون ان تنتبهي إليها، في الدالية التي يمكن أن تعبريها دون أن تقطفي عنبها، فكري في أغوارك الضاجة بالحب والعطاء والسخاء، يكفي أن تزيلي كل الأحجار كي تتدفق بتلقائية كشلال زلال، بذرة الحب كائنة مقيمة بداخلك، متأصلة في ذاتك، يكفي أن نسقيها بالموسيقى، بالتشكيل، بالحب بالشعر، كي تزهر وتتفتح، تكفيها لمسة حانية كي تتوهج وتلتمع.

لا تفكري كثيرا في تعريف للحب أو في معانيه الفلسفية أو أسراره الوجودية، فكري في أن تحييه بنزقه، بزئبقيته، بشغبه، وبرقصه “الزوربي” في قلبك، خارج أسوار المنطق والعقل، فكري أن تعيشيه دون السؤال عن كنهه أو جدواه، الحياة نتقنها حين نحياها بدفقها وانفجارها دون السؤال عن معانيها، حين نضع الحب في قفص السؤال، نعلن في مشهد جنائزي أفوله وزواله.

في الحب لا مكان للخوف، للقلق، لانعدام الثقة بالنفس للحزن، كل تشويش أو ارتباك نفسي ينمحي في حضرة الحب، ولا سيادة إلا لطاقة الحب الايجابية التي تلتهم كل خوف وإدانة للذات وحزن وبؤس وكآبة واكتئاب وقلق وأرق.

الحب صلاة و طقس تعبدي نتأهب له بكل جوانحنا، حين يتملكك يعصف بك بكل جموحه، لا ينوجد إلا بمقدار زمن الحياة التي نحياها فيه وبه، وبمقدار ذوباننا في حممه، و اختلافه، وتجدده، الحب كلما كان رتيبا هادئا مطمئنا مهادنا يخفت، الحب ينوجد بشراسته، بآلامه، بلذته، بغطرسته، بعذوبته الوحشية، بلاءاته، بمشاكساته، بمراوغاته، بمباغثاته، بالمسافة المتأرجحة بين الدنو والبعاد، أن تحبي، يعني أن تمارسي الجنون بكل أشكاله وملامحه، وأن يتم إغواؤك بحيوات شتى ضاجة غير مكرورة، أن تحب يعني ألا تكرر حياتك ولا أخطاءك ولا خيباتك ولا حبك.

أن أحب يعني أن أصير في حضرة العاشق ملكة، ويصير هو ملكا، أن أبصرني في عينيه أنثى متوهجة، جميلة، مختلفة، أن أشرق في سمائه في كل لحظة، أن يحبني كما لو يحبني لأول مرة، أن يتهجى أبجدية الحب على بياض يدي، أن يبعثرني ليعيد تشكيلي، أن يعثر علي ليفقدني في براري الغبطة والتيه، أن يستعذبني ويستلذني بمتعة المتذوق العاشق الولهان.
وإن لم نصادف هذا الحب، لابأس ان انتظرناه بيأسنا الجميل، وان نلقي بلهفتنا ويأسنا ونظراتنا الزائغة وتعبنا كوقود في محرقة هذا الانتظار، وإن صادفناه عبثا، ذبنا فيه بحرارة انتظارنا ويأسنا ولهفتنا.

الحياة بلا حب، موت متأهب للموت، صحراء بلا ماء ولا رونق، سيأتي هذا الحب لا محالة، بدفقه المحموم وغبطته المفرطة، وبلمعة الحب في عينيك، كلما أشرعت له نوافذ الفرح، والأمل والحب، لا يهم إن لم يباغثك نجما عابرا في سمائك، فقد تسامرين في سماء ما، في زمن ما، قمرا في أوج اكتماله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى