زيارة مرتقبة.. لماذا تتجه السعودية وتركيا إلى التقارب الآن؟
توحي الإشارات الدبلوماسية الأخيرة بين تركيا والسعودية إلى تحسن العلاقات بين الخصمين المتنافسين على القيادة السنية وسط تراجع حدة المنافسة الإقليمية في الشرق الأوسط. ويحمل هذا التحول الأوسع انعكاسات كبيرة على العلاقات التركية السعودية والجغرافيا السياسية في المنطقة.
ويمكن أن يشير الدفء في العلاقات بين أنقرة والرياض إلى المنافسة المتزايدة بين الأخيرة وأبوظبي، وجهود المملكة لتنويع علاقاتها الأمنية، واحتياج تركيا المتزايد للمساعدة الاقتصادية وسط أزمة العملة المتفاقمة.
الانخراط الدبلوماسي
عقد المسؤولون السعوديون والأتراك عدة اجتماعات ومحادثات هاتفية خلال العام الماضي، في إطار جهود إقليمية أوسع لخفض التوتر بعد السنوات المضطربة التي أعقبت الربيع العربي. وتشير هذه الخطوات إلى رغبة متزايدة في التعاون العملي بين الدولتين.
في هذا السياق الأوسع، التقى وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” بنظيره السعودي الأمير “فيصل بن فرحان” في مؤتمر دولي في أوزبكستان في 18 يوليو/تموز الماضي. وفي اليوم التالي، أجرى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” محادثة هاتفية مع العاهل السعودي الملك “سلمان بن عبدالعزيز” لتبادل التهاني بمناسبة العيد ومناقشة العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين.
وبشكل عام، أجرى المسؤولون السعوديون والأتراك العديد من المكالمات الهاتفية والاجتماعات على المستوى الوزاري خلال العام الماضي، بما في ذلك اجتماع نوفمبر/تشرين الثاني 2021 بين وزير التجارة السعودي “ماجد بن عبدالله القصبي” ونائب الرئيس التركي “فؤاد أقطاي”.
وربما ساهمت هذه الخطوات في قرار “أردوغان” زيارة الرياض للقاء الملك “سلمان” في فبراير/شباط المقبل. وسيكون هذا الاجتماع جوهريًا بالنظر إلى القضايا الجارية بين الدولتين، بما في ذلك إيواء تركيا لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ودعمها لقطر، وهجماتها الصاخبة على ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” لدوره في مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” عام 2018.
ويرى الباحث “جورجيو كافييرو” أن جهود المصالحة الأخيرة داخل مجلس التعاون الخليجي كانت دافعا لتحسين العلاقات التركية السعودية. فبعد قمة العلا، التي أدت إلى التقارب بين السعودية وقطر، أصبحت تركيا في موقف يمكّنها من تعميق تحالفها مع قطر دون أن يكون ذلك على حساب العلاقة مع الرياض. وتحاول تركيا الاستفادة من هذه البيئة الجديدة في منطقة الخليج حيث يدشن القطريون والسعوديون فصلا جديدا يقوم على المصالحة والتعاون.
ومع احتياجات ومصالح الدولتين في ظل دخول المنطقة مرحلة جديدة، أصبح الوقت مناسبا للتقارب بين تركيا والسعودية.
اهتمام الرياض بتحسين العلاقة
وربما يكون الدافع الرئيسي لدى الرياض لتحسين العلاقات مع أنقرة هو تنامي القوة الإقليمية والنفوذ الدبلوماسي لأبوظبي وسط المنافسة الساخنة بين الحليفين الخليجيين التقليديين.
وحاول الإماراتيون مؤخرا تهدئة الأجواء مع تركيا، كما ظهر من زيارة ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” إلى تركيا في في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حيث التقي “أردوغان” للمرة الأولى منذ نحو عقد من الزمان. وعقب الاجتماع، أعلن البلدان عن توقيع 10 مذكرات تفاهم في مجالات الاستثمار والتمويل والتجارة والطاقة والبيئة، بما في ذلك صندوق إماراتي بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمار الاستراتيجي في تركيا.
علاوة على ذلك، أبرمت تركيا صفقة تبادل عملات بقيمة 5 مليارات دولار مع الإمارات في 19 يناير/كانون الثاني الجاري. وبالإضافة إلى رحلته إلى السعودية، سيزور “أردوغان” الإمارات أيضًا في فبراير/شباط المقبل.
وتعد جهود تهدئة التوترات بين أنقرة وأبوظبي مهمة بالتأكيد للشؤون الإقليمية، وسوف تدرسها الرياض باهتمام شديد. وبالتالي، يعتقد “كافييرو” أن “االتوتر الذي رأيناه بين الرياض وأبوظبي العام الماضي ساهم في رغبة القيادة السعودية في تحسين علاقتها مع أنقرة “.
ومن خلال ذلك يتضح أن القيادة السعودية لديها مخاوف بشأن الجهود الإماراتية لتحسين العلاقات مع الجيران الإقليميين وترغب في مواجهتها أو استباقها.
ويمكن للرياض مواجهة نفوذ الإمارات لدي تركيا من خلال تقديم حوافز اقتصادية بشروط أقل. وستتوافق هذه الخطوة مع الإجراءات التي اتخذتها المملكة مؤخرًا لمواجهة نفوذ الإمارات المتنامي، بما في ذلك إجبار الشركات الأجنبية على جعل مقارها الإقليمية في السعودية اعتبارا من عام 2023 كشرط لممارسة الأعمال التجارية داخل المملكة.
وفضلا عن ذلك، تسعى السعودية أيضًا لمعالجة مخاوفها الأمنية من خلال تطوير العلاقات مع قطاع الدفاع التركي. وفي هذا السياق، لدى السعوديين مصلحة مباشرة في الحصول على الطائرات المسيرة التركية لردع التهديدات الإقليمية. وتمتلك تركيا واحدة من أكثر الطائرات المسيرة تقدمًا في العالم، كما ثبت في ساحات الحرب من ليبيا إلى إثيوبيا، وهي حقيقة تدركها المملكة بالتأكيد.
وبالنظر إلى مساعي الولايات المتحدة لتحويل اهتمامها إلى شرق آسيا وكذلك الانتقادات الكبيرة داخل أمريكا لسجل حقوق الإنسان في السعودية، يمكن للمملكة الاستفادة من علاقاتها مع تركيا لتأمين محفظة أمنية متنوعة تعالج مخاوفها الأكثر إلحاحًا.
أنقرة بحاجة إلى جيرانها
في الوقت نفسه، تواجه أنقرة أيضًا تحديات داخلية كبيرة تتطلب تحولًا في استراتيجيتها الإقليمية. ويواجه حزب العدالة والتنمية الحاكم غضبًا متزايدًا في جميع أنحاء تركيا بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والحرب المطولة في سوريا، مما يصب في مصلحة المعارضة التي تستعد للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023.
كما أن لدى أنقرة مخاوف جدية بشأن التعاون العسكري المتزايد بين السعودية والإمارات من جهة واليونان من جهة أخرى. وفي هذا السياق، نشرت أثينا بطارية صواريخ باتريوت في المملكة لتحل محل منظومات الدفاع الجوي التي سحبتها الولايات المتحدة، بينما طارت المقاتلات الإماراتية والسعودية إلى اليونان لإجراء مناورات جوية مشتركة.
علاوة على ذلك، تمتلك “قطر للبترول” مشروعًا مشتركًا مع “إكسون موبيل” للتنقيب عن الغاز في مياه قبرص اليونانية التي تطالب بها تركيا. وبالتالي، فإن النفوذ اليوناني المتزايد لدى دول مجلس التعاون الخليجي يدفع أنقرة بالتأكيد لاتخاذ خطوات ملموسة لمواجهته. نتيجة لذلك، تقوم أنقرة بمراجعة استراتيجيتها في السياسة الخارجية، لا سيما فيما يتعلق بالممالك الخليجية ومصر.
وفي قلب هذا الجهد توجد المصالح الاقتصادية التي ازدادت أهميتها مع أزمة العملة التركية التي خسرت 44% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي في عام 2021.
وتمتلك دول الخليج الثرية إمكانات استثمارية كبيرة يمكن أن تساعد في حل العديد من مشاكل أنقرة الاقتصادية. وبالنظر إلى مكانة اإسطنبول كمركز للأزياء والسياحة إلى جانب التجارة القوية سابقًا بين البلدين، سيستفيد الأتراك من إصلاح العلاقات مع السعودية ورنهاد الحصار غير الرسمي الذي فرضته الرياض على العديد من السلع التركية.
ويأتي التحول في السياسة الخارجية التركية في سياق مبادرات أوسع للانفتاح على الدول العربية. وفي مارس/آذار 2021، منعت أنقرة ظهور بعض الإعلاميين المعارضين للنظام المصري علي القنوات التي تبث من أراضيها، وفرضت قيودا على الخطاب الإعلامي لهذه القنوات بالتزامن مع تصاعد الجهود للمصالحة مع مصر، ولا بد أن السعوديين لاحظوا ذلك.
وبشكل عام، تفتح الجهود الدبلوماسية السعودية والتركية مرحلة جديدة في المنطقة تسود فيها البرجماتية والتعاون النسبي بدلا من المنافسة الشرسة والسياسة الخارجية العدوانية.
وقد يكون الحفاظ على علاقة أقوى أمرًا صعبًا مع وصول ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” إلى عرش المملكة نتيجة التوتر العميق الذي أحدثه مقتل “خاشقجي”. ومع ذلك، يمكن أن تنشأ علاقة عمل إذا اختارت كلتا الدولتين البراجماتية على الخلافات السابقة.
وبالتالي، تشير كل الدلائل إلى أن الدفء سيستمر في الوقت الحالي، ويمكن أن يستمر في المستقبل إذا استمرت الدولتان في اعتبار أنه ضروري للحفاظ على مصالحيهما وأهدافهما السياسية.