“عاجزون عن شراء بيضة”.. الشعب اللبنانى يواجه المجاعة !
سجل صندوق البيض أو يطلق عليه اللبنانيون “كرتونة البيض” (30 بيضة)، سعراً قياسياً بلغ 100 ألف ليرة لعدد من العلامات التجارية (تساوي 75$ وفق سعر الصرف الرسمي)، فيما بات معدل أسعار البيض عموماً يتراوح ما بين 75 ألف ليرة و90 الفاً، وهو ارتفاع قياسي تخطى أكثر التوقعات تشاؤماً في هذا المجال.
تسعيرة أثارت صدمة لدى اللبنانيين الذين اعتادوا أن يكون البيض أسهل الخيارات وأرخصها عند الحاجة، بينما بات سعره اليوم يقارب سدس الحد الأدنى للأجور في البلاد البالغ 675 ألف ليرة، كانت تساوي بحسب سعر الصرف الرسمي لليرة 450$، وتصرف على أساسها حتى اليوم رواتب الشريحة الأكبر من موظفي القطاعين العام والخاص في لبنان، بينما تساوي فعلياً اليوم بحسب سعر الصرف في السوق السوداء نحو 28 دولاراً فقط.
يدخل البيض كمكون أساسي في عدد كبير من الأطباق والحلويات المرغوبة في لبنان، ويشكل عنصراً ضرورياً من عناصر الهرم الغذائي، بات شراؤه اليوم ضرباً من الرفاهية إن لم يكن ترفاً صعب المنال بالنسبة إلى الشريحة الأكبر من اللبنانيين، حتى بات يباع في المحال بالبيضة الواحدة، فيما استحدثت السوبر ماركات والمراكز التجارية باقات من 3 بيضات فقط، لمواكبة هذا الارتفاع المخيف في الأسعار، الذي يتخطى القدرة الشرائية للمواطنين بأشواط.
وأصدر البنك الدولي، الثلاثاء، تقريراً يكشف عن توسع هائل في حزام الفقر في لبنان، ليضم فئات جديدة تبلغ نحو 2.3 مليون نسمة من المقيمين، ويتوزعون بين 1.5 مليون لبناني و780 ألفاً من النازحين السوريين. وبحسب منظمة “الإسكوا” فقد تفاقم الفقر في لبنان إلى حدّ هائل في غضون عام واحد فقط، إذ أصبح يطال 74% تقريبًا من مجموع السكان.
لائحة المحرمات
آمال خطيب،42 عاماً، أم لـ 4 أولاد، أدرجت البيض ضمن “لائحة المحرمات” في منزلها، وهي لائحة باتت تضم أنواع الأطعمة المحرومة منها، بسبب تخطي أسعارها لقدرة العائلة الشرائية. تضم لائحة آمال اللحم الأحمر والأسماك، الأجبان والألبان، أنواع كثيرة من الخضار والفاكهة، وعدد كبير من السلع الغذائية والمعلبات لاسيما الأنواع المستوردة التي تباع وفقاً لسعرها بالدولار.
وبحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن لبنان يستورد 85 بالمئة من احتياجاته الغذائية، فيما يشعر 50 بالمئة من اللبنانيين بالقلق من عدم قدرتهم على توفير الغذاء، في ظل تسَجّيل تضخم أسعار المواد الغذائية بنحو 402 في المئة.
وسجل سعر كيلو اللحم الأحمر اليوم، رقماً قياسياً هو الأعلى منذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان، فبلغ ما بين 230 و250 ألف ليرة لبنانية، فيما يسجل تراجعاً كبيراً في مبيعات الملاحم وأقسام اللحوم وصل إلى حد الـ 80% وفق التقديرات، فيما أغلقت ملاحم عدة أبوابها نهائياً أمام الزبائن في عدد من المناطق اللبنانية.
“قريبا سينضم العدس والحمص إلى اللائحة إن بقيت أسعارها ترتفع بهذه الوتيرة” تؤكد آمال، وتضيف “الحبوب هي آخر ما تبقى لنا لنعتمد عليه في وجباتنا اليومية، ومع ذلك يناهز الكيلوغرام الواحد من العدس الـ 60 ألف ليرة، والحمص يسير على خطاه، نعيش على ما استطعنا إعداده من مونة شتوية وبعض الخضروات منخفضة الثمن إضافة إلى المعكرونة والأرز المصري حصراً، وكنا نعتمد على البيض لاسيما في وجبة الفطور، واعداد الحلويات المنزلية، ولكن مع هذه الأسعار استغنينا عنه مرغمين”.
كذلك تخطى سعر الكيلوغرام الواحد من “اللبنة” البلدية الـ 140 ألف ليرة لبنانية، فيما سجل سعر الكلغ من جبنة الحلوم رقماً قياسياً هو الآخر، بلغ 180 ألف ليرة. حتى ربطة الخبز التي تكاد تكون السلعة الغذائية الوحيدة المدعومة من الدولة اللبنانية، بلغت هي الأخرى عتبة الـ 10 آلاف ليرة مرشحة للارتفاع في الأيام المقبلة نتيجة اعتراض أصحاب الأفران على التسعيرة.
للبيضة بورصتها
ارتبط البيض في ذاكرة عمر بلوق بالأيام العجاف، “كنا نسلق البيض والبطاطا في أيام الإثنين، يوم عطلة الملاحم، أو مع نهاية الشهر حين لا يعود راتب والدي يكفي لشراء اللحم وتحضير الأطباق المكلفة، أما اليوم فإن راتبي أعجز من أن أتحمل تكلفة بيضة واحدة يومياً، هل يتخيل أحد في العالم أن يعجز عن شراء بيضة كل يوم؟”
في المقابل، لا يرى رئيس نقابة مربي الدواجن موسى فريجي أن سعر البيض مرتفع بتاتاً. “لا يمكننا الحكم على السعر دون مقارنة المنتج مع ما يماثله من قيمة غذائية في غذاء آخر. وفي هذا المكان لا يساوي القيمة الغذائية للبيض إلا الحليب، الذي يبلغ سعره في الأسواق اليوم 3 أضعاف سعر البيض، وبالتالي سعر البيض في لبنان رخيص جداً”، يقول فريجي.
ينفي النقيب أن تكون قد بلغت كرتونة البيض سعر الـ 100 ألف ليرة، “سعر صندوق بيض المزارع يتراوح اليوم مبيعه ما بين 65 و70 ألف ليرة لا أكثر، أما البيض البلدي فهو أغلى بكثير بسبب ندرته. وإذا حصل أن بيعت كرتونة البيض بأعلى من هذه الأسعار فهو بسبب جشع التجار الذين يزيدون من نسب أرباحهم، وهنا يفترض على وزارة الاقتصاد ومديرية حماية المستهلك القيام بدورهم الرقابي على الأسواق وضبط هذا التلاعب بالأسعار. لاسيما وان المزارع يسلم اليوم صندوق البيض بسعر 60 ألف ليرة أي 2000 ليرة للبيضة الواحدة”.
ويضيف في حديثه لموقع “الحرة” أن المشكلة لم تعد بأسعار المواد الغذائية بقدر ما هي مشكلة أجور في لبنان، لاسيما في القطاع العام، حيث يفترض على الدولة اللبنانية، بحسب فريجي، “أن تعدل الأجور لموظفيها وتضع حداً أدنى جديد للأجور ليواكب ارتفاع الأسعار وانهيار القدرة الشرائية للرواتب بدلا من البحث في تخفيض أسعار السلع”.
يتهم فريجي الدولة بالتقصير عن القيام بواجباتها، معتبراً أن القطاع الخاص سبق الحكومة إلى خطوة رفع الأجور، “نحن بدأنا باحتساب 3 ملايين ليرة كحد أدنى لأجور العاملين في مزارع الدواجن والبيض دون أن ننتظر إجراءات الدولة اللبنانية والرفع الرسمي للحد الأدنى للأجور، ومثلنا فعلت قطاعات عدة، من أجل المحافظة على موظفيها والعاملين فيها وحقوقهم في تغطية مصاريفهم بدل تعبهم في العمل.”
يسأل عمر “كيف يمكن لعقل أن يستوعب ارتفاع قيمة صندوق البيض من 7 آلاف ليرة إلى 70 ألفاً او 100 ألف؟ لم أفهم منذ بداية الأزمة ما علاقة البيض بالدولار، إنه انتاج محلي وزراعي كيف ترتفع أسعاره بالنسبة نفسها لأسعار المواد الغذائية المستوردة؟”
سؤال عمر يطرحه عدد كبير من اللبنانيين، ويجيب عليه فريجي بإحالة على سعر الأعلاف التي تستورد بالدولار من الخارج، بينما توقفت الدولة اللبنانية عن دعمها، “تمثل الأعلاف 75% من كلفة الإنتاج، ولا شيء يدفعه المزارع بالليرة اللبنانية إلا أجرة العمال لديه وتكلفة كهرباء الدولة، وما عدا ذلك كله بالدولار فمن الطبيعي أن يرتفع سعر البيض إذا ما ارتفع سعر الدولار”.
قيمة غذائية لا تعوض
عمر توقف عن شراء البيض “منذ أن بلغ سعر الصندوق 50 ألفاً”، شأنه شأن آمال، ومثلهما عدد كبير من سكان لبنان، تخلوا عن هذا المنتج في نظامهم الغذائي. نظام بات يفتقر إلى عناصر غذائية بالغة الأهمية كالبروتينات والفيتامينات، لا تعوضها البدائل التي يلجأ إليها فقراء لبنان بدافع التكلفة الذي بات يتقدم في سلم الأولويات على الصحة والسلامة الغذائية.
لكن المؤسف أن البيض يعتبر واحداً من الأغذية التي لا يمكن التعويض عنها بكل ما للكلمة من معنى، فبحسب البروفيسور في علم التغذية ميرنا الفتى، فإن نوعية البروتين الموجودة في البيض لا تتوفر لا في اللحوم ولا في النباتات، لاحتوائه على أحماض أمينية يمتصها الجسم بشكل أسرع وأكبر من أي أنواع أخرى من البروتينات، وتساعد أكثر من غيرها في بناء عضلات الجسم بشكل سليم، إضافة إلى ما يحتويه من حديد وزنك وفيتامينات ودهون ومادة الكولين الضرورية لبناء أغشية الخلايا والتي لا تتوفر في كل البدائل النباتية.
وبحسب الفتى فإن البيض يحتوي أيضاً على كافة أنواع الفيتامين B-Complex التي نحتاجها للنمو ومواجهة مشاكل صحية عدة. كما أنه يسجل البيض أهمية خاصة أيضاً للنساء المرضعات، إذ يحتجن إليه بشكل يومي ليستطعن إنتاج الحليب بالكميات اللازمة والعناصر الغذائية المطلوبة للرضيع.
“هذا الواقع المؤسف يهدد الأمن الغذائي للبنانيين بشكل كبير جداً”، وفقاً للخبيرة الغذائية التي تؤكد أن “البروتينات التي يتناولها اللبنانيون اليوم، ليست من النوعية الجيدة للجسم في كثير من الأحيان، لاسيما مع الاعتماد على المصادر النباتية للبروتين، وذلك لكون البروتين النباتي جيد ولكن امتصاصه من الجسم قليل، وأقل احتواءً على الحديد، وبالتالي لا يعوض بشكل كامل عن المصادر الحيوانية للبروتين.”
التقليل من أكل البيض واللحوم والأسماك، يؤدي بحسب الخبيرة إلى خسارة كمية العضل الموجود في الجسم، ويقلل أيضا من نسب الحصول على الحديد والمغنيزيوم والزنك، وهذه المواد “تتوفر بنسب أقل في البقوليات والمكسرات ولكن هذه الأطعمة باتت أيضاً في لبنان مرتفعة الثمن وشراءها ليس بمقدور الجميع”.
وتحذر البروفيسور من المشاكل التي قد تكمن في البدائل المعتمدة للبروتينات الحيوانية، “كالصويا مثلا التي تعتمد اليوم كبديل عن اللحوم، الصويا في المقابل تحمل مستويات مرتفعة جداً من هرمون الاستروجين، وهو لا يصلح للرجال بنسب عالية، كذلك للنساء حيث يؤثر على انتظام الدورة الشهرية، لذا يجب دراسة المحتويات الغذائية لأي بدائل قبل اعتمادها.”
كما تنبه من المنتجات المقدمة في السوق اللبنانية للأجبان والألبان، والتي “تشهد غشا كبيراً، حيث تحتوي على كميات كبيرة من الملح والماء والدهون المصنعة، إضافة إلى استعمال مكثف لمادة النشاء من أجل تماسك هذه الخلطات المقدمة على أنها أجبان، بلا دسم ولا غذاء، والأمر نفسه ينطبق على اللبن واللبنة”.
مخاطر تمتد لأجيال
هذا الاختلال في النظام الغذائي للبنانيين، سيصل بهم إلى نظام آخر يعتمد على كميات عالية من النشويات مقبل كميات أقل من البروتين، بحسب ما تؤكد البروفيسور، “وبالتالي متجهون إلى مجتمع يعاني بنسبة كبيرة جداً من الكوليسترول والسكري، ولأننا نخسر كثير من العضل في الجسم، سنواجه مشاكل في طاقة الجسم على الحركة، بينما ستزداد مسببات الالتهابات في الجسم، وستؤدي إلى انتشار الأمراض المزمنة بشكل أكبر.”
هذه الأمراض ستمثل مشكلة مستقبلية كبيرة للمجتمع اللبناني، “سنشهد انخفاضاً في مناعة الأجسام ضد الأمراض، وتتكرر الإصابات بالأمراض نفسها، ويصبح وقت الشفاء أطول، فيما سرعة التقاط الأمراض أكبر بكثير”، وفقاً لميرنا.
أما على صعيد الأطفال، فإن الخلل الواقع في النظام الغذائي الحالي سيؤدي إلى بطء في النمو الجسدي والفكري بسبب انخفاض نسب اللحوم والأسماك والحبوب والاعتماد الأكبر على النشويات والسكاكر. وتختم الخبيرة الغذائية: “قد نشهد على المدى الطويل انخفاضاً في معدلات طول القامة في لبنان نتيجة ضعف النمو، مضاف إليه تراجع في السلامة الصحية وانخفاض في المناعة، ما يحصل اليوم يهدد أجيالاً قادمة بتدمير صحي ليس مقبولاً.”