فورين أفيرز تشعل الحرب : غزو روسي محتمل لأوكرانيا في 2022
تشير الدلائل إلى أن روسيا قد تشن هجوما عسكريا على أوكرانيا في وقت مبكر هذا الشتاء؛ فقد عززت قواتها على طول الحدود الأوكرانية على مدى الأشهر العديدة الماضية، وهو ما قد يكون مقدمة لعملية عسكرية تهدف إلى قلب الوضع السياسي في أوكرانيا لصالحها.
ورغم أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد ينخرط بعملية دبلوماسية مرة أخرى، إلا أن موسكو قد لا تكتفي بذلك هذه المرة. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق؛ فقد يتجدد الصراع على نطاق أوسع بكثير. ورغم أن “بوتين” يخاطر بحدوث اضطرابات جيوسياسية واقتصادية من خلال إعادة إشعال المواجهة العسكرية مع أوكرانيا، فإن لديه سبب وجيه للاستثمار في الوضع الإقليمي الراهن.
وضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 في واحدة من أكبر عمليات الاستيلاء على الأراضي في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ولم تتأثر روسيا بشدة بالعقوبات الغربية المفروضة عليها؛ بسبب الغزو، كما تحتفظ موسكو بنفوذ كبير على سوق الطاقة الأوروبي.
وفي غضون ذلك، تجري أمريكا وروسيا محادثات حول الاستقرار الاستراتيجي. لكن الغزو الروسي العسكري لأوكرانيا قد يعيد رسم خريطة أوروبا مرة أخرى ويقلب جهود واشنطن لتحقيق الاستقرار في علاقتها مع روسيا.
ومع تزايد ثقة موسكو سياسيا واقتصاديا، فإن تحول اهتمام واشنطن ومواردها إلى منافستها مع الصين ربما يكون قد أقنع “بوتين” أن أوكرانيا أصبحت الآن مصلحة هامشية للولايات المتحدة.
وأشار القادة الروس إلى أنهم سئموا من المحادثات الدبلوماسية، معتبرين أن انخراط أوكرانيا المتزايد مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي “الناتو” تجاوز كل الخطوط الحمراء. وأصبح المسرح مهيأ الآن لموسكو لتغيير هذه المعادلة بالقوة.
التحضير للحرب
ولا يوحي تقدير موقف القوة الروسية بأن الغزو وشيك. ومن المحتمل جدا أنه لم يتم اتخاذ قرار نهائي بشن عملية عسكرية. ومع ذلك، فإن النشاط العسكري الروسي في الأشهر الأخيرة خرج عن دورة التدريب العادية. وانتشرت وحدات في المنطقة العسكرية الغربية المتاخمة لأوكرانيا، وأرسلت جيوش القوقاز وحدات إلى شبه جزيرة القرم.
ولا يمكن اعتبار هذه أنشطة تدريب روتينية، بل هي محاولة لوضع الوحدات والمعدات على أهبة الاستعداد لعمل عسكري محتمل. علاوة على ذلك، يبدو أن العديد من الوحدات تتحرك ليلا لتجنب التدقيق العالي، على عكس الحشد السابق في مارس/آذار وأبريل/نيسان.
ومن المنطقي تماما توقع سيناريو حرب أوسع. وإذا حدث ذلك، فإن اختيار “بوتين” لتوسيع الصراع لن يكون قرارا متعجلا. ولا يزال إرث أزمة أوكرانيا 2014 يقود إلى التصعيد. ومع تعثر هذه الجهود السياسية والدبلوماسية، تدرك موسكو أن الجهود السابقة باستخدام القوة قد آتت أكلها.
من جهتها، تعمل أوكرانيا على توسيع شراكاتها مع أمريكا وبريطانيا ودول “الناتو” الأخرى. وقدمت أمريكا مساعدة عسكرية كبيرة، فيما يساعد “الناتو” في تدريب الجيش الأوكراني. وتشكل هذه العلاقات شوكة في حلق موسكو، وقد تحولت روسيا ببطء من اعتبار عضوية أوكرانيا في “الناتو” بمثابة خط أحمر إلى معارضة التعاون الدفاعي بين أوكرانيا وخصومها الغربيين.
ومن وجهة نظر الكرملين، إذا كانت الأراضي الأوكرانية ستصبح أداة أمريكية ضد روسيا فإن استخدام القوة سيكون الخيار الأمثل خاصة إذا كان الجيش الروسي قادرا علي تغيير المعادلة. وإذا استغنت موسكو حتى عن التظاهر بالمشاركة الدبلوماسية، فإن هذا يشير إلى أن استخدام القوة يزداد احتمالية أكثر من أي وقت مضى.
ومن المهم أيضا الإشارة إلى موقف روسيا الداخلي والتطورات الجيوسياسية الأوسع. ويبدو نظام “بوتين” مستقرا مع الضربات الشديدة التي تتلقاها المعارضة. وأعادت موسكو بناء مركزها المالي منذ بدء العقوبات الغربية في عام 2014 ولديها حاليا نحو 620 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية. وقد يكون لروسيا أيضا نفوذ كبير على أوروبا هذا العام؛ بسبب ارتفاع أسعار الغاز ونقص إمدادات الطاقة.
وفي غضون ذلك، كانت أوروبا غارقة في الخلافات بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، فيما تركز إدارة “بايدن” على الصين؛ ما يشير إلى أن روسيا تأتي بمرتبة متأخرة على جدول الأعمال وأن أوروبا ليست أولوية سياسية عليا. وهكذا تمثل أوكرانيا مصلحة ثانوية داخل مسرح ثانوي بالفعل.
وعلى مدار العام الماضي، استخدمت القيادة الروسية خطابا صاخبا لفتت من خلاله الانتباه إلى خطوطها الحمراء في أوكرانيا. ولا تعتقد موسكو أن الولايات المتحدة تأخذ الأمر على محمل الجد. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، أشار “بوتين” إلى أن التطورات العسكرية في أوكرانيا تمثل تهديدا حقيقيا لروسيا.
ولا ترى القيادة الروسية أي احتمال لحل دبلوماسي، وتعتقد أن أوكرانيا تنزلق إلى المدار الأمني للولايات المتحدة. لهذا السبب قد ترى الحرب حتمية. ولا يعتقد القادة الروس أن استخدام القوة سيكون سهلا أو مجانيا، لكنهم يرون أن أوكرانيا تسير في مسار غير مقبول، وأن لديهم خيارات قليلة لإنقاذ مصالحهم. وربما استنتجوا أيضا أن اللجوء إلى الخيارات العسكرية سيكون أقل تكلفة الآن مما سيكون عليه في المستقبل.
دبلوماسية مقيدة
وحققت روسيا نصرا خلال هجومها العسكري 2014-2015 في أوكرانيا. وفرضت اتفاقات وقف إطلاق نار غير مريحة بالنسبة لكييف. وقد تحسن الجيش الأوكراني بشكل كبير منذ ذلك الحين، وكذلك تحسن الجيش الروسي. ويظل هامش التفوق الكمي والنوعي لروسيا كبيرا.
ومع ذلك، فإن نجاح روسيا في ساحة المعركة لم يُترجم إلى نجاح دبلوماسي عام 2014 أو بعد ذلك. كما أن النفوذ الروسي على أوكرانيا، بصرف النظر عن الأراضي التي ضمتها أو غزتها، آخذ في التقلص بشكل مطرد منذ عام 2015. في المقابل، فشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، الذين تجنبوا صراعا محتملا مع قوة نووية، في إجبار روسيا على الانسحاب من خلال العقوبات.
ووقعت أوكرانيا اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2014، والتي أدخلتها في حظيرة اللوائح التنظيمية الأوروبية. وكانت هذه هي النتيجة التي كانت روسيا تحاول منعها. وواصلت كييف الضغط من أجل الحصول على عضوية “الناتو”، وبالرغم أنه ليس لديها أي احتمال مباشر للانضمام إلى الحلف، إلا أن تعاونها الدفاعي مع أعضاء “الناتو” قد تعمق منذ ذلك الوقت.
ورغم أن الرئيس الأوكراني “فلاديمير زيلينسكي” حافظ على منصة المفاوضات مع موسكو بعد توليه منصبه، فقد عكس مساره في عام 2020 وأغلق محطات التلفزيون الموالية لروسيا واتخذ موقفا متشددا بشأن المطالب الروسية. وقد وضعت إدارة “زيلينسكي” أوكرانيا على طريق “التكامل الأوروبي الأطلسي”، وهي العبارة التي يستخدمها الدبلوماسيون الأمريكيون باستمرار لوصف التوجه الاستراتيجي لإبعاد أوكرانيا عن روسيا.
لكن منذ عام 2014، لا تزال هناك فجوة بين خطاب أمريكا وأفعالها في أوكرانيا وأماكن أخرى. وكشف الصراع السوري عن عدم وجود تصميم أمريكي فيما يتعلق بهدفها المعلن وهو رحيل “بشار الأسد”. ولم تواجه واشنطن الوجود العسكري الروسي؛ ما سمح لموسكو بتوسيع نفوذها عبر الشرق الأوسط.
وكشف الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان والغبار حول صفقة الغواصات بين أستراليا وبريطانيا وأمريكا، والتي استبعدت وأغضبت فرنسا، مشاكل خطيرة في التنسيق داخل حلف “الناتو”. وتبدو واشنطن مرهقة من الحرب، ومن المحتمل أن تتساءل روسيا عما إذا كانت تصريحات واشنطن بشأن الدعم السياسي لأوكرانيا مدعومة بتصميم وثيق.
وإذا قدر “بوتين” أن دعم المسؤولين الأمريكيين لوحدة أراضي أوكرانيا غير صادق، وليس هناك الكثير مما يوحي بخلاف ذلك؛ فقد يشجعه ذلك على تغيير ميزان القوى الإقليمي من خلال القوة. وسيكون من الغباء أن يحاول “بوتين” غزو أوكرانيا بأكملها، وهي بلد ضخم يزيد عدد سكانه عن 40 مليون نسمة، لكن قد يحاول تقسيم البلاد إلى قسمين أو فرض تسوية جديدة تسعى إلى عكس اتجاه أوكرانيا ومنع الانزلاق إلى “التكامل الأوروبي الأطلسي” والتعاون الأمني مع أمريكا.
وسعت موسكو منذ فترة طويلة إلى مراجعة تسوية ما بعد الحرب الباردة. وقد يتصور القادة الروس أنه بدلا من بذل المزيد من الجهود للاحتواء، فإن الحرب على هذا النطاق من شأنها أن تفرض بمرور الوقت حوارا حول دور روسيا في الأمن الأوروبي.
ولطالما كان هدف روسيا هو استعادة نظام إقليمي يكون لروسيا فيه وزن مماثل للغرب. ومن المشكوك فيه أن يعتقد “بوتين” أنه يستطيع تحقيق مثل هذه التسوية من خلال الإقناع أو الدبلوماسية التقليدية.
وقد تضطر الدول الأوروبية الرئيسية لقبول ترتيب جديد مع موسكو، مع تصاعد مخاوفها بشأن تداعيات الصدام العسكري خاصة أن بعض هذه الدول ترى أنها في مرتبة ثانوية بالنسبة لاستراتيجية أمريكا. ولا يعني ذلك أن مثل هذه النتيجة مرجحة، لكنها قد تكون الاحتمالية التي يركز عليها القادة الروس.
إيجاد الاستقرار في الصراع
ويجب على أمريكا أن تستخلص استنتاجين من الحشد العسكري الروسي حول أوكرانيا. الأول: هو أنه ليس من المرجح أن يكون ذلك مجرد استعراض للقوة، رغم الرسائل المختلطة من موسكو. وقد أعلن “بوتين” في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، أن “تحذيراتنا الأخيرة لوحظت وكذلك تأثيرها”.
وسيكون مفتاح رد واشنطن هو الاستعداد لاحتمال اندلاع حرب في عام 2022، وإجراء تنسيق استباقي مع الحلفاء الأوروبيين، وتوضيح عواقب مثل هذا الإجراء لموسكو. ويمكن للولايات المتحدة العمل مع شركائها الأوروبيين لرفع التكاليف الاقتصادية والسياسية لعمل عسكري قد تقدم عليه روسيا؛ ما قد يقلل من احتمالية اندلاع حرب.
وقد كلف الفشل في تطوير رد منسق على العدوان الروسي لأوكرانيا ثمنا باهظا في السابق. وفي عام 2014، لم تنضم أوروبا إلى العقوبات إلا بعد أن أسقط الانفصاليون المدعومون من روسيا طائرة ركاب مدنية في يوليو/تموز الماضي، بعد فترة طويلة من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وغزو منطقة دونباس.
ويجب على أمريكا أن تتجنب هذه المرة اتخاذ سياسات مجزأة. وبينما قد ترغب واشنطن في الحفاظ على بعض الخيارات السرية، يجب أن تصف علنا الخطوط العريضة الأساسية لدعمها للسيادة الأوكرانية جنبا إلى جنب مع حلفائها الأوروبيين، وقبل وقت طويل من اندلاع صراع عسكري كبير. وسيتطلب ذلك تفصيلا للخطوط الحمراء الغربية في الأسابيع القليلة المقبلة.
ورغم أن وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية “فيكتوريا نولاند” وصفت في 18 نوفمبر التزام بلادها بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها بأنه “صارم”، إلا أن واشنطن لا تقدم أي التزامات أمنية رسمية لكييف. وتذكرنا مثل هذه التصريحات بشكل مخيف بالدعم السياسي الذي تم تقديمه لجورجيا في الفترة التي سبقت الحرب الروسية الجورجية عام 2008.
ومن غير المرجح أن ترتدع روسيا بسبب المصطلحات الدبلوماسية التي تفتقر للمصداقية، بل إنها ستحاول إيذاء سمعة أمريكا في الوقت الذي يبدو فيه أن واشنطن فيه متمددة أكثر من اللازم.
والاستنتاج الثاني: يجب على أمريكا أن تتصرف، لكن يجب أن تحرص على عدم تضليل القيادة الأوكرانية من خلال توقع دعم لن يتحقق. وإذا كان البيت الأبيض لا يرى دورا عسكريا لنفسه في أوكرانيا، كما كان الحال عام 2014، فعليه أن يخبر كييف بهذا الأمر بشكل خاص وصريح حتى يتمكن قادة أوكرانيا من العمل بوعي كامل للواقع الجيوسياسي.
وسواء اندلعت حرب في أوكرانيا في الأشهر المقبلة أم لا، تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى أن يكونوا أكثر صدقا بشأن المأزق الدبلوماسي الحالي الذي يجدون أنفسهم فيه. ولا تعد روسيا في حالة تراجع جيوسياسي، ومن غير المرجح أن تستسلم أوكرانيا. ويعتبر الصراع المستمر على النفوذ في أوكرانيا أمر لا مفر منه وسيزداد الأمر سوءا. ومع ذلك، لا مانع من البحث عن حل دبلوماسي يقلل من خطر خروج المنافسة عن السيطرة.