فأر الحَضرة (قصة قصيرة) يكتبها: محمد فيض خالد

محمد فيض خالد

هَتَفَ قلبه وتراقص برؤيا الأعلام وتعانقها ، ومع دق الطُّبول ازدادَ طَربا ، امتلأت الدّروب برجالٍ في وجوههم سحر يستشف منه الظُّرف ، سُرعان ما ظهرت حولهم مراقص الفرح ،  زاحمت البيوت مع رَائحةِ ( التَّقلية) أحاديث ليلة النبي ، اسَتشاطَ الجَمعُ حَماسا في عفويةٍ تَقافَزَ مع الرِّفاقِ ، اكتملَ المشهد بعرباتِ الغَجَر تجرها البغال تحملُ المراجيح وطاولات ( البخت ) والنيشان  ، هناك في الحقولِ البور نُصبت في انتظار إشارة البدء ، كفكفت مدامعها ” سعدية ” بائعة الجاز كمدا وحسرة ، فابنها ” عبدالمعطي ” يقضي أيام خدمته العسكرية في السّويسِ ، سيُحرم عامه الثاني من حضورِ الليلة وهذا نذير شؤومٍ ، ليلة الجمعة دبّت الحركة ارجاء القرية ، على ضوءِ ” الكلوبات” وفحيحها المُنعش ، راجت حركة البيع والشّراء ، وعلى وقع نداءات الباعة ولغط الحديث انقلب المكان ساحة من ساحات البيع الكبرى ، العتبة ،أو ميدان الحبشي ، تفيض الحنوك تمضغ ما يُلقى إليها ، يتبارى  الصّغار في طحنِ كرات ” الكرملة” وأصابع الموز وحبات البرقوق فلا هوادة .

لا يقطع نشوتهم إلّا صوت ” محروس ” الخفير السّمج؛  كأنّ  من عبوسه لم  تُخلق ملامحه للبسماتِ ، كلّفته النّقطة حفظ النّظام ، في برود ٍ يَحومُ من حولِ الباعة في أُبَهة السُّلطة وغطرسة النُّفوذ ، يُطالِع فتاة ناهد تفجّر جسدها إغراء ، تستخرجُ الشَّهوة من قَراراتِ النّفوس ،  يجيبها بشتائمٍ من رفثِ القول :” امشي عِدل بلاش تتقصعي زي غوازي ببا” .

عامدا يتعثّر في خطواتهِ؛ لينَالَ من خَيراتِ المكان ، يُمرّر كفهُ حول كرنيفةِ البندقية ، يُطمّئن من حوله بأنّه الآمر النّاهي ، في الهزيع الأخير من اللّيلِ تَثّاقل الحركة ، ينكمش المارة يتحلّق الشباب حول بائع القصب في سِباقٍ محموم لمصَّ أعواده ، ساعتئذٍ يُسَارِع الرِّجال صوب “الحضرة ” مُلبّين النّداء ، يتعالى هاتفا  : ” المدد يا رجال الله المدد ..” مع توافد القوم يُبالِغ صاحبنا في تجويدِ مخارجه ، يمطّ رقبته فيُلقي بمقذوفٍ روحاني طوعا تنقاد له الأجساد .

قالوا عنه :” إنّ أمه وهبته للحضرةِ مُذّ كان في أحشائها جنينا ، رأت وكأنّ طائرا خَرَجَ منها ، يضربُ بجناحين عريضين سَقف الجريد ، يملأ البيتَ نورا قبلَ أن ينساح في الفَضاءِ ، كاشفها الشيخ ” سويلم ” خادم ضريح سيدي ” المغربي ” بأنّ لابنها شأن ينتظره ، ولابدّ أن تنذرهُ لخدمةِ الحضرة ، لم تكن رواية الرُّؤيا غير  خيالٍ نسجته.

استطاعت أن تحجزَ مبكرا مكانا لائقا لابنها بين رجالها ، هي تعلم أنّ الحضرة تفيضُ لبنا وعسلا ويا سعد من جاورَ السُّعداء ، تحتَ وهج ” الكلوبات” علت رغوة بيضاء ، خليطٌ  قالوا عنه شراب شيخ  الحضرة ، ضربَ بكفه دوى متتابعا في المكان ، شرعت الأجساد في تمايلٍ خفيف  تطوّحت الأذرع قليلا ، سارع صاحبنا في إنشاده  بصوتٍ ندي ، ومن تحته صبيه يمدّه بكؤوسه ، استوى الأُنس والتّجلي ، حمي الوطيس ، تعالت زومة الصّدور ، وبنغمٍ موحد تردد :” حي حي حي حي” حذّرته أمه مرارا ، جأرت بمرِّ الشكوى :” لا تذهب للحضرة” لكن دون جدوى،

وكلما تقدّم خطوة زادت حمأة الانتشاء ، في توجّسٍ  طافَ بالأطرافِ ، تساقط القوم صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية ، يعالجونهم بقطعِ البصل فيعودوا لما كانوا وكأنّما نشطوا لوقتهم ، تشجّع فتوغل بينَ السِّيقان تزحزح حتى المنتصف ، وفِي رأسه بقايا من غوايةٍ :” وسط الحضرة تتساقط القروش وقطع النقدية الفضة  من الجيوبِ هي ثروة لمن يُجازِف ” تفيقه صرخات  صاحبنا :” اخشع بقلبك يا مؤمن وحد وسلم ” تزداد نشوة القوم في افتعالٍ ممجوج، تساءل في دخيلتهِ :” لماذا لا يطرد سيدنا هؤلاء من الحضرة؟!” فاته أنّ سيدنا قد انشغلَ في جمعِ نفحات المحبين ،  بعد جهدٍ جهيد جذبه المشهد انتظمَ بين الصُّفوفِ ،حرّك ذراعيهِ يمينا وشمالا ، فجأة اظلمّت الدُّنيا من حَولهِ ، دارت رأسه ، تتابع وميضٌ مُتَقطّع ثم غابَ في سكونهِ ، وعند الصَّباح اقعدته والدته وابتسامة التّشفي تزايلها ، نَظرَ إليها نظر المغشيّ عليهِ من الموت ، على ما يبدو أن يد أحدهم طاشت فأصابته ، بعدما حلّت في صاحبها أنوار التّجلي..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى