أمريكا تنهي حروبها الصغيرة لتبدأ حربها الكبيرة ضد الصين ..! بقلم: إبراهيم نوار
أمريكا تنهي حروبها الصغيرة لتبدأ حربها الكبيرة ضد الصين ..! بقلم: إبراهيم نوار
الكلام هو عن السلام، لكن الفعل هو للحرب. في منتصف الشهر الحالي، وبعد أسبوعين فقط من إنهاء انسحابها من أفغانستان، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا تشكيل حلف (أوكاس -AUKUS) وهو تحالف عسكري جديد لمواجهة الصين، في إطار رؤية لإعادة التموضع الاستراتيجي الأمريكي في العالم، ينتقل بمقتضاها مركز المجهود العسكري الرئيسي للولايات المتحدة في الخارج إلى الشرق الأقصى بدلا من الشرق الأوسط. وكنت قد أشرت إلى ما يتعلق بالشرق الأوسط في مقال نشر بهذه الصحيفة في 4 مايو الماضي بعنوان «الحوار الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل في مفترق طرق، ماذا يفعل العرب؟».
أمريكا في أفغانستان
أدى إعلان إقامة الحلف إلى أزمة حادة داخل التحالف الغربي، فقد غضبت فرنسا من فسخ عقد غواصات مع أستراليا كان قد تم توقيعه عام 2016، فسحبت سفيريها من واشنطن وكانبيرا، وغضب الاتحاد الأوروبي، فأعاد جوزيب بوريل المسؤول عن السياسة الخارجية تأكيد ضرورة «الاستقلال الاستراتيجي» عن الولايات المتحدة، وغضبت الصين فأعلنت أن أستراليا يمكن أن تصبح هدفا مشروعا لرد عسكري نووي، حال حدوث مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة، ودفعت في اليوم التالي لإعلان الحلف، قوة كبيرة بحرية وجوية لإجراء مناورات حول تايوان. كما تسود حالة من القلق في المنطقة الممتدة من المحيط الهادي إلى شمال المحيط الهندي، حيث تصادف إعلان إقامة الحلف مع انعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون، وقمة اتفاقية الأمن الجماعي لروسيا ودول آسيا الوسطى.
أما في الشرق الأوسط فسيؤدي الحلف الجديد لإعادة رسم خريطة الاصطفاف على جوانب الصراعات الإقليمية المشتعلة، أخذا في الاعتبار تراجع دور الولايات المتحدة، وتوسيع دور إسرائيل الاستراتجي، وانتعاش دور فرنسا من خلال عقود السلاح والنفط، والنفوذ السياسي التاريخي لفرنسا في شرق البحر المتوسط وشمال افريقيا، وتكثيف النفوذ الروسي، وسعي الصين لأول مرة في تاريخها إلى لعب دور عسكري في العالم، عن طريق إقامة أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي. ومن المتوقع أن يؤثر تشكيل حلف (أوكاس) على أربعة نطاقات دفاعية متشابكة في المنطقة، هي الخليج، وشرق البحر المتوسط، وشمال افريقيا، والقرن الافريقي.
سياسة احتواء جديدة
انطلاقا من هذا المدخل سنحاول الإبحار في دلالات الحلف العسكري الثلاثي (أوكاس) مستعينين ببوصلة للرؤية مستمدة من أفكار ثلاثة من أعظم مفكري القرن الماضي. الأول هو جورج كينان الذي طور فلسفة سياسة «الاحتواء» وهي السياسة التي قام عليها مبدأ ترومان، وامتد العمل بها حتى نهاية رئاسة رونالد ريغان، ونظمت مسار الحرب الباردة (1947 -1991) التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتغيير الخريطة الجيوسياسية للعالم، بدون طلقة رصاص تضع القوتين الأعظم في مواجهة مسلحة مباشرة. والثاني هو هنري كيسنجر المتجدد دائما، ومهندس بناء العلاقات الأمريكية – الصينية، الذي نصح الإدارة الحالية بأن تتعاون مع الصين في مجالات المصالح المشتركة، وأن تتفق معها على قواعد للمنافسة الصحيحة بشأن المصالح المتعارضة. أما الثالث فهو المؤرخ البريطاني روبرت سيرفس، أهم من درسوا التاريخ السياسي لروسيا في القرن العشرين، والأكثر مصداقية بين كل من درسوا الحرب الباردة وكتبوا تاريخها. في صحبة أفكار هؤلاء الثلاثة أقدم الملاحظات التالية:
أولا: يعتبر حلف (أوكاس) أداة جديدة من أدوات الحرب الباردة، التي تشنها الولايات المتحدة على الصين. وأعني بذلك أن الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، متفقان على أن الصين هي العدو الرئيسي لأمريكا، وأنها أخطر من روسيا على الصعيد الاستراتيجي في الأمد الطويل. كان ذلك صريحا في استراتيجية الأمن القومي، التي أعلنها ترامب عام 2017، كما أنه أكثر وضوحا في الاستراتيجية المؤقتة للأمن القومي، التي أعلنها بايدن في مارس الماضي. الصين وروسيا وايران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، في نظر الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، دول معادية للولايات المتحدة أو مناوئة لها. ونظرا لأن النظام السياسي الأمريكي يقوم على أساس توازن دقيق بين السلطات الثلاث، ومع قرب موعد انتخابات التجديد الفصلي للكونغرس في العام المقبل، فمن المرجح أن تتغلب الاعتبارات الانتخابية على الخطاب السياسي للبيت الأبيض، عن طريق تبني خطاب «قومي شعبوي» معاد للصين، لضمان توسيع القاعدة التصويتية المؤيدة للرئيس في كل من المجلسين. ومع أن استخدام حلف عسكري لاحتواء الاتحاد السوفييتي نجح في الحرب الباردة الأولى، فإن اختلاف ظروف وطبيعة صعود النفوذ الصيني يجعل دور الحلف العسكري وتأثيره في المواجهة الاستراتيجية مع الصين محل شك.
أوروبا : القوة الرابعة
ثانيا: قام الحلف بناء على مبادرة من البيت الأبيض، على الأرجح بطريقة «الإبلاغ» بعد اتفاق تم أولا بين الولايات المتحدة وأستراليا، ثم طلب بايدن من بريطانيا الانضمام إليه. وكان الاتفاق قد تبلور امتدادا لسعي الإدارة الأمريكية السابقة إلى إقامة «تحالف عسكري رباعي» في مواجهة الصين، يضم معها كلا من استراليا واليابان والهند، أُطلِق عليه مجموعة «قواد – QUAD» لكن المناقشات الأولية أظهرت تحفظات قوية من اليابان، وكذلك من كوريا الجنوبية، التي اشتركت في الجولة الأولى من المشاورات، ثم فضلت أن تبقى خارجها، خشية أن يصبح الحلف مبررا يسمح للقوات الأمريكية باستخدام أراضي وأجواء والمياه الإقليمية للدول الأعضاء، في شن هجمات على الصين، ومن ثم تعريضها لردود انتقامية. ومن المقرر عقد قمة زعماء (قواد) بعد غد الجمعة في واشنطن، وسيكون الموقف من الصين على رأس جدول أعمالها. ويجب أن نلاحظ أن (أوكاس) يختلف عن التحالفات العسكرية التي أقامتها الولايات المتحدة في الـ30 عاما الأخيرة، من حيث أنه ليس تحالفا عالميا مثل التحالف العسكري العالمي ضد الإرهاب، ولا يمثل حلف الأطلنطي، المؤسسة الدفاعية الرئيسية للتحالف الغربي.
ثالثا: على الخلفية نفسها قررت الولايات المتحدة فسخ عقد الغواصات الفرنسية، ليس لمجرد تزويد أستراليا بغواصات نووية، بدلا من الغواصات الفرنسية التي تعمل بالديزل والكهرباء، لكن لأسباب أخرى تتعلق بأهداف إعادة التموضع الاستراتيجي للولايات المتحدة، منها أن فرنسا أوضحت لإدارة بايدن في أكثر من مناسبة أن للاتحاد الأوروبي مصالح مشتركة مع الصين، رغم خلافاتهما الأيديولوجية والسياسية، لا يمكن التضحية بها بطريقة «الإبلاغ» التي استخدمها بايدن في قمة الدول السبع، بشأن الانسحاب من أفغانستان. ومن ثم فإن إحدى نتائج إقامة الحلف الثلاثي تتمثل في زيادة حدة تدهور العلاقات بين أمريكا وحلفائها داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ما يعجل بتطوير الاتحاد الأوروبي ليصبح القوة العالمية الرابعة بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا. إن استدعاء ماكرون لسفيره في واشنطن هو أكثر من مجرد احتجاج على فسخ عقد الغواصات، الذي ستحصل فرنسا مقابل إلغائه على تعويض يتراوح بين 7 إلى 8 مليارات دولار. الأزمة السياسية الناتجة عن إقامة الحلف تعكس خلافا عميقا داخل التحالف الغربي بشأن إدارة العلاقات مع الصين وروسيا، وهو خلاف تشترك فيه دول أخرى مثل إيطاليا وألمانيا. إيطاليا انضمت لمشروعات مع الصين ضمن مبادرة الحزام والطريق، وألمانيا اصطدمت بالولايات المتحدة بشأن خط الغاز الروسي الثاني «نورد ستريم- 2» الذي اكتمل بناؤه رغم العقوبات الأمريكية، ويُنتظر إنهاء الإجراءات القانونية والتجارية والإدارية لتشغيله، ربما قبل نهاية العام الحالي.
الخط الفاصل بين الحرب الباردة والساخنة
رابعا: في حربها الباردة على الصين، وبعد فشل الحرب التجارية والتكنولوجية التي بدأها ترامب عام 2018 ، فإن إدارة بايدن تستعير أدوات قديمة من «صندوق عِدّة» الحرب الباردة، أهمها محاولة إجهاد القوة المناوئة من خلال سباق التسلح، وهو سباق يستجيب حاليا لمصالح لوبي السلاح الأمريكي، بعد الانسحاب من الحروب التي كانت تضخ إلى خزائن الصناعات العسكرية عشرات المليارات من الدولارات كل عام. لكن إدارة بايدن تتجاوز حاليا بعض قواعد إدارة الحرب الباردة، حيث أن «التهديد النووي» الذي تنطوي عليه صفقة الغواصات الاسترالية، وانتهاك «مبدأ الصين الواحدة» بتصدير السلاح إلى تايوان، والاستفزازات العسكرية المستمرة في بحر الصين الجنوبي، يزيد احتمالات حدوث مواجهة ساخنة بين الصين وأمريكا، يخسر فيها كل منهما والعالم. وتعطينا أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 درسا بليغا في ضرورة تحديد الخط الفاصل، بين ما يدخل في أدوات الحرب الباردة، وما قد يحولها إلى حرب نووية شاملة. كما يمكن استخلاص دروس مشابهة من دراسة الرد الروسي على نشر صواريخ للناتو في بولندا، بنشر صواريخ مقابلها، والرد على تعميق الشراكة العسكرية للحلف مع أوكرانيا باجتياح شبه جزيرة القرم عام 2014.
ومع ذلك فإن تغيير ميزان القوى النووية في المحيطين الهادي والهندي قد يفتح الطريق أمام انضمام الصين لاتفاقية الأسلحة النووية المتوسطة المدى، وهو ما ترفضه حتى الآن. وترى الصين أن حصول أستراليا على غواصات نووية يمهد لتسليح هذه الغواصات بأسلحة نووية، وهو ما تجنبته دول المحيط الهادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بما فيها أستراليا ونيوزيلندا. ونظرا لأن أستراليا لن تتسلم الغواصات النووية قبل فترة تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات، فإن هذه الفترة ستكون مليئة بعوامل القلق والتوتر في بحري الصين الشرقي والجنوبي، خصوصا إذا فاز برئاسة الحكومة المقبلة في اليابان شخصية من التيار اليميني المتشدد تجاه الصين.