هل بوسع مصر الانكفاء على ذاتها؟ .. بقلم: محمد أبو الفضل

 

محمد أبو الفضل

يشعر البعض من المراقبين العرب للأوضاع في مصر أن قيادتها السياسية أكثر اهتماما بالقضايا الداخلية وأقل انخراطا في الملفات الخارجية، وبنى هؤلاء استنتاجهم على كثافة الجولات والزيارات اليومية التي يقوم بها الرئيس عبدالفتاح السيسي لمواقع العمل وما يبديه من متابعة دقيقة لعدد كبير من البرامج التي تستهدف موضوعات اقتصادية واجتماعية تمس حياة المواطنين.

أصاب من انتبهوا إلى هذه الملاحظة التي تستوجب التوقف عندها بعد أن كادت تتحول إلى ظاهرة، فإذا تمت المقارنة بين الهموم الداخلية ونظيرتها الخارجية من المؤكد ستربح كفة الأولى، حيث خرجت مصر من ثورتين وهي تبدو “شبه دولة”.

وهذه العبارة نحتها الرئيس السيسي بنفسه في بداية حكمه عام 2014، لكنه قال أيضا إن مصر سوف تصبح “أد (أي حجم) الدنيا”، وهو توصيف مجازي فضفاض يطرب له المصريون على غرار “أم الدنيا” في إشارة دالة على أهميتها الحضارية.

أعلم أن هذه النوعية من العبارات يراها البعض تعكس قدرا من الشوفينية لدى شريحة من المصريين وتجاوزها الزمن، وأن هناك من يبغضون المصطلحات الماضوية، لكن لا يزال قطاع من المواطنين يطربون لسماعها كإشارة على الأمل والتفاؤل والقوة المعنوية، وهو ما يحاول السيسي تحقيقه بالتركيز على الإصلاحات الداخلية لتعويض ما فات من إهمال في العديد من مناحي الحياة التي تهم الناس وتخفف أوجاعهم.

غالبية التوجهات الخارجية تشير إلى أنها تعبير عن حاجة عاجلة تمس الأمن القومي، فالتفاعل مع الحرب على غزة والتوسط لوقف إطلاق النار بين حماس وقوات الاحتلال الإسرائيلي في مايو الماضي، ثم التحركات الرامية إلى دفع القضية الفلسطينية إلى الأمام ووضعها على جدول المجتمع الدولي، نبعت أساسا من هواجس إقليمية تتعلق بالحد من التصعيد العسكري ومنع العودة للحرب .

ينبع صواب الملاحظة من تقدير عام لدى القيادة المصرية بضرورة تعميق الإصلاحات، والتي لن تحدث دون التوسع في كل مجالاتها بما يشمل الكثير من النواحي التي أصيبت بالتكلس، كما أن الرئيس السيسي على اقتناع بأن شرعيته لن تستمر وتتجذر ما لم يُحدث طفرة ملموسة في الداخل، حيث أدى تراكم الأزمات إلى زيادة الغضب الشعبي على نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك ثم سقوطه.

أضف إلى ذلك أن السيسي كرر أكثر من مرة ضرورة تماسك الجبهة الداخلية، والذي يمكنه تلاحمها من مقاومة أي تهديدات خارجية، فما حدث في نهاية عهد مبارك من سيولة كبيرة لحقت بعدد كبير من المؤسسات الرسمية فرض أهمية فائقة لإيقاظها من كبوتها عبر التركيز على تصحيح أوضاعها وتوجيه قدر من الاهتمام بها.

يحمل التوسع الأفقي والرأسي المصاحب للمشروعات التنموية علامات توحي بأنه جزء محوري في استراتيجية تمتين الجبهة الداخلية كعصب يساعد الدولة والنظام الحاكم على مواجهة التحديات الجسيمة، بمعنى أن كل قوة يتم اختزالها أو مراكمتها في الداخل سوف تؤدي إلى قوة مضاعفة في الخارج.

لا يعني هذا التوجه أن هناك إهمالا فاضحا للقضايا الإقليمية والدولية، بل هناك اهتمام بما يحقق عنصر الأمان وإحداث التوازن في العلاقات بصورة تبعد أو تقلل من حجم التهديدات الخارجية المباشرة، وهي معادلة تختلف عن فكرة الدور النابع من مكونات الجغرافيا السياسية التي تتمتع بها مصر.

يحتاج الدور المؤثر أكثر من الدفاع عن الأمن القومي وحماية المصالح الحيوية، وهو ما تقوم به مصر حاليا ونجحت في بلوغه بدرجة كبيرة، إلى تفاعل أكثر والاستعداد لدفع تكاليف ذلك، وربما تحمل المخاطرة والمجازفة إذا لزم الأمر، لأن الدفاع عن مصالح مصر تاريخيا يبدأ من الخارج، فمهما نضجت الأوضاع في الداخل وبلغت مرحلة متقدمة من التطورات يمكن أن تتحطم حال اشتداد التحديات الخارجية.

تتطلب هذه الصيغة امتلاك درجة فائقة من تحمل الاشتباك، ولن يتم ذلك من دون وجود خطة استراتيجية محكمة، فما يحدث حتى الآن من اهتمام بما يجري في قطاع غزة والأزمة الليبية وسد النهضة الإثيوبي يبدو قريبا من ردات الفعل التي تسعى إلى الحد من الأزمات بتسكينها ومنع استفحالها بلا إصرار على البحث عن حلول حاسمة.

يدور جدل داخل النخبة المصرية يطفو على السطح ويخبو من وقت إلى آخر حول فكرة الدور الإقليمي للدولة، فهناك تيار انعزالي يؤيد الانكفاء والتركيز على التنمية ومحاورها المحلية، ولسان أصحابه يقول كفى طموحات خارجية لأنها كبدت البلاد خسائر باهظة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

ثمة تيار يدافع عن التمدد ويؤيد تعظيم الدور الإقليمي باعتباره من صميم تكوين الدولة، فغالبية الأزمات جاءت من الخارج، وأمن مصر ينهار من اللحظة التي يتم فيها إهمال فكرة الدور، فالانكفاء تحت أي ذريعة سوف يكون أكثر كلفة لأن الخصوم لن يظلوا بعيدين عن مصر حتى لو أرادت قيادتها التقوقع حول القضايا المحلية.

تشير غالبية التوجهات الخارجية إلى أنها تعبير عن حاجة عاجلة تمس الأمن القومي، فالتفاعل مع الحرب على غزة والتوسط لوقف إطلاق النار بين حماس وقوات الاحتلال الإسرائيلي في مايو الماضي، ثم التحركات الرامية إلى دفع القضية الفلسطينية إلى الأمام ووضعها على جدول المجتمع الدولي، نبعت أساسا من هواجس إقليمية تتعلق بالحد من التصعيد العسكري ومنع العودة للحرب بين الجانبين، واستحسان الدور الرمزي.

يمكن القياس على ذلك في حالتي الأزمة الليبية وسد النهضة، فكل التفاعلات التي تمت معهما جاءت من تهديدات قوية للأمن القومي، وعندما تراجعت أو هدأت أوقفت القاهرة تحركاتها أو فرملتها، وهو ما يوضح الفرق بين الدفاع عن المصالح عند حدوث خطر داهم وبين القيام بدور لمنع الوصول إلى مستوى التهديد أصلا.

لن يكون بوسع مصر الانكفاء ولو أرادت قيادتها السياسية تحقيق طفرات تنموية للمواطنين وتوسعت في الإصلاحات الداخلية، فالدور مسألة مصيرية وليس محل اختيار. في لحظة معينة سوف تُستدعى مصر لحماية مصالحها حيث يؤدي التركيز على الداخل لتآكلها تدريجيا بسبب وجود طموحات لدى قوى إقليمية منافسة على استعداد لملء الفراغ المصري.

ظهرت تجليات هذه المعادلة في الفترة الماضية مع صعود دور كل من إيران وتركيا وإسرائيل وفي الطريق إثيوبيا، وانهماك مصر في معالجة مشاكلها الداخلية بوفرة وعدم وجود القوة العربية البديلة بعد تدمير العراق وسوريا، وانشغال باقي الدول العربية القادرة على الحركة في أزمات داخلية أو إقليمية أو الاثنين معا.

تؤدي هذه النتيجة إلى القول إن تطوير قدرات مصر المحلية وكفى يحدث خللا مضاعفا في الساحة العربية، ما يمنح فكرة الدور أهمية قومية تحرص القيادة المصرية عليها لأنها في صميم أهدافها الداخلية والخارجية، فاستمرار النحر في القوى العربية لن يساعد القاهرة على الاستفادة مما يحويه بعضها من ثروة اقتصادية تسهم في تعزيز الاستثمارات بمصر، لذلك من الصعب أن تواصل الانكفاء حول ذاتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى