عن الفراغ الإستراتيجي المحتمل في الشرق الأوسط.. بقلم: عبد الله السناوي
بتوقيت متزامن تدافعت الحوادث قريباً منا وحولنا على نحو يومئ بأوضاع استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط.
اتصالات معلنة وغير معلنة بين أطراف إقليمية متنازعة لاكتشاف مواضع الأقدام فوق أرض متحركة، ومحاولات حثيثة لخفض التوترات خشية ما قد يحدث غداً، أو بعد غد.
الإقليم كله في وضع تأهب ترقباً لانسحاب تقترب مواعيده للقوات الأميركية من العراق.
لم يكن الانسحاب الأميركي من أفغانستان حدثاً منعزلاً عن حسابات الإقليم الذي نحيا فيه وتشتعل في جنباته أزمات وحروب مزمنة أنهكت بلدانه بقسوة بالغة.
وفق نفس النظرة الاستراتيجية الأميركية، التي سوغت الانسحاب من أفغانستان، فمن المتوقع انسحاب مماثل من العراق، الذي جرى احتلاله وتحطيمه بعد أفغانستان مباشرة على إثر حادث الحادي عشر من أيلول قبل عشرين عاماً بالضبط.
هناك ما يشبه الإجماع داخل المؤسسة الأميركية على سحب القوات الأميركية من أفغانستان والمشرق العربي وتخفيض الحضور العسكري في الخليج، الذي عليه أن يتحمل تكاليف حمايته ــ على ما كان يقول الرئيس السابق دونالد ترامب.
هذا خط إستراتيجي سوف يأخذ مداه بغض النظر عمن يجلس في البيت الأبيض بقصد تركيز الاهتمام على الداخل الأميركي المتصدع بصراعاته السياسية والعرقية والتوجه بدرجة أكبر إلى الشرق الآسيوي، حيث الصراع على المستقبل مع الصين.
لم يكن الاعتراض في الحالة الأفغانية منصباً على المبدأ بقدر ما كان على الطريقة العشوائية التي جرى بها الانسحاب ونالت بقسوة من هيبة الولايات المتحدة.
ولا كان انسحاب القوات الأميركية المتمركزة في سورية مستبعداً على عهد ترامب، فقد تبنى خيار الانسحاب وأعلن عنه، لكنه أجله لوقت لاحق تحت ضغط المؤسستين العسكرية والاستخباراتية خشية الأضرار المحتملة بالحلفاء. ثم سوغ بقاءها بالاستيلاء على البترول السوري، هكذا دون حياء.
مقدمات وشواهد الانسحاب الأميركي من العراق ماثلة، ترتيبات أمنية وسياسية تمهد، وجو عام داخلي يطلب ويلح على ذلك الانسحاب، الذي يتلكأ خشية الإضرار بمصالح وحلفاء، لكنه محتم في مدى منظور.
العراق ليست أفغانستان، بقدر مركزية موقعها في مشرق العالم العربي وحجم أدوارها المحتملة في معادلات الإقليم إذا ما استعادت قدرتها على الحركة والفعل المستقلين.
أفغانستان قضية حرب على الإرهاب وسط آسيا ومناكفة لدول الجوار، فيما العراق قضية عالم عربي يتطلع أن ينهض مجدداً من تحت الركام، وهذا تهديد وجودي للحليف الإسرائيلي.
عودة العراق تعاكس ما تعرض له من تحطيم منهجي على مدى عشرين عاماً بحل جيشه ومؤسساته ومحاولات تقسيمه لثلاث دويلات عرقية ومذهبية.
بأي حساب لن تكون عودة العراق سهلة ومتاحة على هذا النحو المرجو بمجرد الانسحاب الأميركي، فالألغام سوف تُزرع لتفجيره من الداخل ومنعه من استعادة دوره ووزنه كقوة عربية كبيرة ومؤثرة.
أحد التحديات الرئيسية، التي سوف تطرح نفسها على العراق وجواره وعالمه: «مَن يملأ فراغ القوة الأميركية؟».
في أعقاب حرب السويس (1956)، التي أفضت نتائجها السياسية والإستراتيجية إلى انكشاف الإمبراطوريتين السابقتين الفرنسية والبريطانية وتراجع أوزانهما في معادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية طرحت القوة الصاعدة الأميركية نفسها بديلاً باسم «ملء الفراغ».
تصدت مصر، الدولة المستقلة حديثاً، لسياسات ملء الفراغ بالأحلاف العسكرية كـ«حلف بغداد»، ونجحت في إسقاطها بقوة العمل الشعبي العربي، الذي التف حول زعامة جمال عبد الناصر.
الأحوال الآن اختلفت، لا نحن في زمن حركات التحرر الوطني، ولا الإمبراطورية الأميركية سوف تخرج نهائياً من الإقليم، لكن أوزانها في تراجع مطرد يكاد ينفي عنها صفة القوة العظمى، الصين بدورها لاعب جوهري محتمل دون أن يكون بوسعه أن يتطلع لأي أدوار تماثل ما تمتعت به الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولا بوسع روسيا الطموحة اكتساب أي أوزان إضافية بالنظر إلى أوضاعها الاقتصادية، ولا الاتحاد الأوروبي بقدرته أن يطرح نفسه بديلاً أو شبه بديل.
الأطراف الدولية كلها سوف تتنازع على اكتساب مساحات أكبر دون أن يكون بوسع أحد أن يهيمن، أو يرث الدور الأميركي السابق، أو الذي يكاد يكون سابقاً!
من يملأ الفراغ الإستراتيجي إذن؟
أسوأ إجابة ممكنة: «إسرائيل المتحفزة» بتحالف أكبر مع حلف «الناتو» وبحركة أوسع لتمديد الاعتراف بها من دول عربية جديدة بزعم حمايتها وما قد توفره من خبرات تقنية حديثة.
بمعنى آخر، إستراتيجي مقصود: تطويع العالم العربي لمقتضيات قيادتها دون أي تسوية للقضية الفلسطينية وفق المرجعيات الدولية، تطبيع مجاني وسلام بلا أرض، وتصعيد المواجهة بالمقابل مع إيران كـ «عدو افتراضي» جديد يسوغ التحالف معها!
إذا ما توصلت مفاوضات فيينا إلى إحياء الاتفاق النووي، فإن الحسابات كلها سوف تختلف، وتترتب عليها انقلابات إقليمية تجري بمقتضاها تسوية الأزمتين السورية واليمنية بالتوافق بين اللاعبين الإقليميين، وهذا بالضبط ما تناهضه إسرائيل، ساعيةً إلى منع أي إحياء للاتفاق النووي.
وسط تعقيدات الإقليم فإن التطلع الإسرائيلي لملء الفراغ محض أوهام.
سؤال الفراغ بتحدياته طرح نفسه بصورة غير مباشرة على «مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة».
المؤتمر لخص الجو العام الجديد في الإقليم وأجواء الترقب لما قد يحدث غداً.
لم تكن قيمة المؤتمر في القرارات التي أصدرها، بقدر الجو العام الذي ساده، فقد تجمعت على مائدة واحدة تناقضات الإقليم كله، غلبت مداخلاته روح المصالحة والاستعداد بدرجات مختلفة لطي صفحة الخلافات دون دخول في أي ملفات ملغمة خشية إفساد المؤتمر برسالتيه المعلنة ــ دعم العراق ومساندته، وغير المعلنة ــ استكشاف فرص إعادة التمركز انتظاراً لما قد يحدث عند الانسحاب الأميركي من العراق.
كان حضور الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لأعمال المؤتمر دالاً بذاته عن نزوع غربي، أميركي بالضرورة، لخفض مستوى الصراعات البينية في الإقليم بين الحلفاء المفترضين للتحكم في التوجهات العامة لما بعد الانسحاب الأميركي من العراق خشية أن تفلت التفاعلات وتصب نتائجها في اتجاهات مضادة.
بعض الاقترابات التي جرت على هامش المؤتمر متوقع وبعضها الآخر مفاجئ. مما هو متوقع الإشارات المتضمنة في الخطابين السعودي والإيراني من روح تستجيب لدواعي المصالحة دون أن تمضي إلى نهاية الشوط، فالحوار بين البلدين جار في سلطنة عمان، ورئيس الوزراء العراقي كشف علناً ما كان معروفاً في الكواليس الدبلوماسية والإعلامية من دور قديم لبغداد في مد الجسور وتنظيم لقاءات بينهما.
ومما هو متوقع، الإعلان عن جولة استكشافية جديدة مصرية تركية في أنقرة بغضون أسبوع، تمهيداً للإقدام على خطوة راديكالية في مستوى العلاقة بين البلدين، لم يحدث مثلها مع الإيرانيين رغم الاتصالات غير المعلنة.
ومما هو مفاجئ تسارع اللقاءات بين الإماراتيين والقطريين، ربما في محاولة من الطرفين ألا يضر أحدهما الآخر بمقبل التفاعلات.
بصورة أو أُخرى حدث نوع من التقاطع بين مصالح دول الإقليم في تخفيض التوترات ومصالح الغرب في التحكم بما قد يحدث عقب الانسحاب الأميركي.
بتفاهم ما، استبعدت سورية ولبنان من حضور المؤتمر، كان ذلك إجراء مقصوداً بذريعة أن حضورهما قد يصب لصالح إيران، فيما كانت إيران نفسها ممثلة في المؤتمر بوزير خارجيتها الجديد «حسين أمير عبداللهيان»، كأن المقصود في اللعبة الجديدة تحجيم أدوارها دون إلغائها.
المأساة ــ هنا ــ أن سورية بلد جوهري في المشرق العربي واستبعاده عمل عدائي ينزع عن المؤتمر شمولية فكرة المصالحة الإقليمية.
وتغييب لبنان عمل عدائي آخر ضد بلد عربي يتعرض لمحنة اقتصادية واجتماعية وسياسية متفاقمة تكاد تدفعه إلى التفكيك دون أن يجد سنداً جماعياً من محيطه.
كان ذلك داعياً للاحتجاج من نخب عربية عديدة دون أن تقلل من أهمية المضي قدماً في سياسات خفض التوتر بالإقليم المنكوب.