مها حمقه تكتب: أنا الدَّمعةُ الأولى والصَّرخةُ الأولى

 

ذاتَ قَرارٍ كونيٍّ عظيمٍ لرحلةِ ذاتيَّة لا تتجاوزُ حدودَ الذاتْ ..وعلى جناحِ ماسةٍ كونيَّةٍ تَحمِلُ مَعها نَهراً و رِيشةً وحفنةَ أسرارْ ، بَدَأَتْْ رِحلتِي ..
بَدأَتْ رِحلتي لأستَقِرَّّ في بقعةٍ من بِقاعِ الكونِ المظلمةْ . بِداية مُؤلمة وصادمةْ ! . إنه عالمُ الأقنعةْ ..عالمُ الكذبِ والضياعْ والخِداعْ بِشتَّى الألوانْ ..عالمٌ لا يَمِتُّ لي بايَّّةِ صِلَةْ !..
غريبةٌ أنتِ عن هذا العالمْ ، والمُهمَّةُ شاقَّةْ والطريقُ أمامَكِ طويلٌ : هذا ما أطْلَعَتْني عليهِ ذاتي العُليا منذُ اللحظةِ الأولى .. والدَّمعةِ الأولى.. والصَّرخةِ الأولى ، حينَ تمَرَّدتُ على قانونِ الذاتِ ورَفَضْتُ أن أتِيهَ عن ذاتي..
بَدَاَتْ رِحلتي ..ومنذُ أوَّلِ أنفاسي قرَّرتُ البحثَ عن ذاتي .. عن عالمي الحقيقيّ ..وعن الطريقِ الذي حَملني إلى هذا العالمِ الملوَّثْ ..
وإذْْ بي أجِدُني ابنةَ اليَنْبوعِ في أعلى قِمَمِ الكونْ ..المُسافِرة بينَ حنايا نهرِهِ العظيمْ ..أمْتَطِي عَبابَهُ لِأُحَلِّقَ معْ أسْرارِهِ إلى أبعدِ الأكوانْ ..ومع إطْلاَلةِ كُلِّ فَجْرٍ جديدْ ..أنثرُ على ضِفافِهِ كُلَّ ما جَمعْتُهُ في جُعْبَتي مِن دُرَرِ الكونْ..
أجِدُني في كلِّ مكانٍ و زمانْ .. فأنا الحُرِّيةُ المُطْلَقَةْ .. والذاتُ اللّامَحْدودَةْ ..أنا الزَّهرَةُ في المُروجِ ..و السنابِلُ الذَّهَبِيَّةُ في الحِقولْ . أنا الزَّرْعُ و الزَّارِعْ .. أنا جميعُ تِلكََ الجداولْ شرايينُ الحياةْ ..أنا المِزْنَةُ والنَّهرُ واليُنبْوعُ معاً..أنا الذاتُ التي أوجَدَتْ كلَّ ذاتْ ..
قُلتُ لليَنبوعْ ذاتَ فِكْرةْ : حَدِثْني عن عالمِ الإنسانْ ..
قال : يا بُنَيَّتي.. في عالمِ الإنسانِ يوجدُ بشر ٌ من النورِ و بشرٌ من النارْ .. نوعٌ عذبٌ كعذوبةِ دِيمةٍ قادمةٍ مِن أعلى القِمَمْ ..
ونوعٌ ملوَّثٌ كمسْتنْقَعٍ آسِنٍ تفوحُ مِنهُ رائِحةُ العَفَنْ ..يَظلِمونَ ويَفتَرونَ .. أينما حَلّوا حَلَّ الدمارْ ..
أمّا النوعُ الأوّلْ .. فهُم أبناءُ الحرِّيةْ العُظماءِ الحُكَماءْ الأقوياءْ شُموسُ القِمّةْ.. ينابيعِ العطاءِ الأنقياءْ .. وهُمْ قِلَّةْ نادرةْ في هذا العالمْ .. لأنهمْ آلهةُ النورْ ..
أمّا النوعُ الآخرْ .. فهُمْ أبناءُ العبوديةِ الجُهلاءْ الأذلَّاءْ الأشقياءْ ..الذين تَحْكُمْهُمْ مبادئٌ وقِيَمٌ غيرُ أخلاقية ولا تَمِتُّ للإنسانيةِ بأيَّةِ صِلَةْ .. وهؤلاءْ هُمُ الذينَ يَكتَظُّ بِِهِمْ هذا العالمُ المظلمْ ..
يا بُنَيَّتي .. مرَّتِ العبوديَّةُ على الحرِّيَّةْ فَوجَدََتْها سعيدةً بذاتِها رَغمَ دِيارِها الشِّبِهْ خالِيةْ مِنَ الأبْناءْ ..فاستغْربَتْ ونْظَرَتْ إليها نظرةَ الجاهلِ المُسْتَخِفَّ بعقلِ عاقلٍ عارفْ قائلةً : ما لي أرى سعادتَكِ لا حُدودَ لها و قَدْ خَلَتْ ديارُكِ إلّا مِن بعضِ الرُّوَّادْ .. تُرى ما سِرُّ سعادتِكِ..ألا تَخْجَلينَ من واقِعِكِ المَريرْ ؟ ها أنتِ منبوذةٌ ليس لديكِ إلّا عددٌ لا يُذْكر ُمن الأبناءْ مقارنةً بِأبنائي …
فنظرتْ إليها الحرِّيةُ مِن عَليائِها نظرةَ العارِف المُشْفِقْ قائلةً : أنا الحرِيّةُ.. والحرِّيةُ هي القمَّةُ التي لا يَرتادٌها إلّا العظماءُ الأقوياءْ ..الأطهارُ الذين لمْ تُدَنِّسْهُمْ قذارةُ مَن يَقْطِنونَ دِيارَكِ مِنَ الأشْقياءْ ..
أنا الأنوارُ التي تنتشرُ في كُلّ أرجاءِ الكونْ فتكونُ الحياةْ ..وأنتِ الظلماتُ التي تَقْتُلُ وتدمِّرُ كُلَّ مَنْ غَرَقَ في لُجَجِها ..
أنا المروءةُ والأصالةُ والصِّدقُ والوفاء ..
أمّا أنتِ فالخِسَّةُ والكَذِبُ والخِيانَةُ والخنوعْ..
أنا العدلُ والعِزَّةُ والمَعرِفَةْ والحَضارةْ..
وأنتِ الباطِلُ والمَذلَّةُ والجهلُ والعارْ ..
أنا المَحَبَّةُ والرَّاحَةُ والمَسرَّةُ والسَّخاءْ..
وأنتِ البَغْضاءُ والشَّقاءُ والكآبةُ والبُخُلْ ..
أنا كلُّ الحياةِ والجمالْ ..وأنتِ كلُّ ما في الكونِ من دمامةْ …
هؤلاءِ هُم أبنائي .قِلَّةٌ .. لكنَّهم أركانُ هذا الكونِ وكُُلّ قَوانِينِهِ التي لا قِيامَةَ لهُ إلّا بِهِمْ ..
أمّا أنتِ أيَّتُها العُبُودِيَّةُ فَهَنِيئًا لَكِ بِدِيارِكِ المُكْتَظَّةِ بالأدواءْ
يا بّنَيَّتي .. الحُرِّيَّة طائِرٌ أطْلَقَهُ الإلهُ فكان الكونُ
اللّامحدودْ بكلّ أنوارِهِ الباهرةْ ..
عالمُ الإنسانِ يا بُنَيَّتي ..هو عالمُ صَقْلِ الذّاتْ ..
أشْقِياءٌ أولئِكَ الذينَ يَلْزَمُهُم الكثيرُ مِنَ المحَطَّاتِ الكونية كي تَبرأَ نُفوسُهم مِنَ الأدْرانِ والعاهاتْ !..

 مها حمقة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى