الشيخ سعد الفقي .. يكتب : حمامه المسجد

سعد الفقي

“حمامة المسجد”.. أول مرة أسمع هذا اللفظ كنت صغيرا لم أستوعب مدلوله فى بدايات الأمر، إلا أن المؤكد أننى كنت مطمئنا أنه لفظ محمود وطيب، كان الكبار ينادون الشيخ مصطفى أبو عطية بذلك، أهلا بحمامة المسجد.

 وعندما يغيب لسويعات كانوا يتساءلون أين ذهب حمامة المسجد، كل ما أعرفه أن حمامة المسجد مرهون به من قبل طلوع الفجر وإلى ما بعد صلاة العشاء، وإن اختلف البرنامج فى شهر رمضان المبارك.

الشيخ مصطفى كان خادما يقوم بنظافة المسجد وتطهيره صباحا ومساء، وهو مؤذن المسجد، وكان يمتلك حنجرة ذهبية ورحابة صوت فى الأذان، وقد علمت بعد ذلك أن أطول الناس أعناقا يوم القيامة هم المؤذنون، وهو صاحب الصوت النقى الدافئ فى تواشيح الفجر يوميا، ولمدة طالت لخمسين عاما، وهو الإمام الذى يؤدى الصلوت الخمس فى مواعيدها دون إبطاء.

ونحن فى الصغر كنا نتمنى رضاه، فهو قاس على كل من حاول انتهاك قدسية المسجد، وكنا لا ندرك أن اللهو واللعب يجب أن يكونا بعيدا عن المسجد، مولانا الشيخ مصطفى أبو عطية، إضافة إلى الأعمال التى كان يقوم بها فى خدمة المسجد.

فإنه كان مسئولا عن ملء خزان المياه الخاص بالوضوء بالطلمبة التى كان يديرها يوميا عقب كل صلاة أو قبلها، يا لها من رحلة عناء كان يتحملها الرجل يوميا ولم يشك يوما من آلام الظهر التى كانت تطارده.

ولا يمكن أن أنسى كيف كان الرجل يقوم بتنظيف دورات المياه التى تحتوى على القاذورات وما ألقى فيها عمدا.. وكان الرجل يمد يده ربما بالساعة ليقوم بتسليك ما تم انسداده فى كل دورة على حدها.. كنت أحاول أن أقوم بمساعدته فى إدارة الطلمبة، وكنت أباهى بذلك.

ولم لا وقد أصبحت صديقا له يستعين بى فى الأعمال، ومنها غسل دورات المياه ونظافة المسجد، ثم التحقت بالأزهر الشريف فزاد قربى منه، وكنت دائم الجلوس معه.

ثم تخرجت وعملت إماما وخطيبا، وبعد سنوات قضيتها خارج القرية، عدت إماما وخطيبا لنفس المسجد والشيخ مصطفى لا يزال يقوم بخدماته لم يتوجع يوما ولم يتأوه.

والغريب فى الأمر أنه لم يكن موظفا بالأوقاف ولم يتقاض راتبا منها، لكنه كان يخدم المسجد حسبة لوجه الله تعالى، وإن عطف أهل القرية عليه فى نهاية كل محصول بما تيسر لهم.

ولم يشك الرجل يوما، بل كان يقتات من قراءة القرآن على المقابر وفى الخميس والأربعين، وبعد رحلة كفاح ونضال فى خدمة المسجد، رحل الرجل تاركا خلفه سيرة عطرة ونموذجا يحتذى به فى كل المحافل، ويا ليت عمال الأوقاف يقرأون سيرته وعطاءه، مرات عديدة أتذكر الرجل، علاوة على كونه عفيف النفس، فإنه كان لا يرضى بالدونية أو الإهانة.

رحم الله حمامة المسجد مولانا الشيخ مصطفى أبوعطية جزاء ما قدم فى خدمة أحد بيوت الله.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى