عبد الهادي جاب الله يكتب: حُلم على نارٍ باردة
كانت السفينةُ تسير بسلامٍ وعلى بركة الله كما لو كانت عروس في ليلة زفافها ، وظلت هكذا لسنواتٍ طويلة، تَعبُر من مكان لآخر و تُعِد نفسها لتنطلق من رحلةٍ لأخرى ، ويرفرف أعلاها رايةُ سلامٍ تجوب بها في كل اتجاه ؛ تدعو من خلالها إلى التوحد وعدم التفرق والتآلف بين الناس على مختلف أطيافهم ومذاهبهم وإنتمائتهم ، ولم تتأثر يوماً بالأمواج الطائشة ولا المنزلقات المائية الجارفة.
لكنها فجأة توقفت وبدون سابق إنذار، و ساد الركاب حالةً من الرعب والتوتر؛ فهناك من نطق الشهادة استعداداً للرحيل وهناك من فقد الوعي فسقط أرضا، وهناك من قفز إلى المياه هروبا من حُمَّى الإنتظار والموت البطيء ، ورغم ذلك لم يتحدوا على كلمة ولم يلتفوا حول أنفسهم، و تنازلوا و كلهم ثقة عن ثقافة مشاركة الرأي فعمَّت الفوضي أرجاء السفينة، حينها أدرك الجميع أنها النهاية.
هكذا شأنُ سفينةُ الحياة ، لقد غَلب عليها طابع الوحدة رغم الزحام، وذهب كل واحد حيث عالمه الخاص، و لم يعد هناك شيءٌ واحد يؤكد على صون الأمانة والإلتزام ؛ فالطمع والجشع وتحقيق المكاسب السريعة كانوا سبباً في إعدام الضمير وتحويل القلب اللَّين إلى حجرٍ أصم ، وبدلاً من أن كانوا كائنات بشرية أليفة أصبحوا كاالحيوانات المفترسة.
فدوام الحال من المحال هكذا تعودنا، و كما كانت تُطِل علينا الدنيا بإبتسامتها الهادئة الخضراء في أيامها السِمان والشعور حينها بالسعادة التي كانت تغمرنا بها في عبائتها ، علينا أيضا أن ننتظرها في أيامها العجاف وهى متخفيةٌ في ثوبها الأسود تحمل لنا كل ألوان الغضب ومعالم الحزن التي تظلل بها خلفيتها.
إن الأفكار والرواسب العالقة التي تَكمُن داخل النفس البشرية والتي هى سبباً في خلق روح التحدي وإصرارها على البقاء والتصلق حتى للوصول إلى المرتفعات من أجل تحقيق أحلامها، تلك هى ثوابت وحقائق قد نشأت و تربت عليها وظلَّت متمسكة بها رغم المِحَن.
لقد وصل العالم اليوم لمرحلة النهاية ،لكنها لم تكن النهاية المعتادة المُتفق عليها على حسب ما ورد في معظم الروايات السابقة و التي تكاد تُرضي جميع الأطراف ، بل كانت نهاية مأساوية مؤلمة، أثبتت فشل جميع المحاولات في الوصول إلى بر الأمان، كما أكدت أيضا على أن هناك عقولا تؤمن بمنهج الأنانية لا تحمل بداخلها سوى فكر عقيم ؛ دفعها إلى حب السلطة والتَّنعم بها ومن ثَم تم تعتيم الرؤية التي تعمل على الإعلان عن المشهد وإظهاره بالشكل المناسب.
ومع كل ما حدث ومايحدث للعالم من حروبٍ و تعدياتٍ و فرض بعض الكيانات الكبرى عقوبات على الدول الصغرى الغرض منها هو إذلال وإفقار شعوبها من أجل الإخضاع لقراراتها التعسفية التي تطيح بمقدراتها، حل فيروس كورونا ليستكمل المشهد لكن بشكلٍ مأساوي.
ومنذ تلك اللحظة لم يعد هناك للطموح موطأ قدم ولم تَعُد الحياة تبشر بالأمل وبدلاً من أن كانت تُحقق السعادة للجميع بتحقيق أحلامهم ورحلات الصعود إلى سطح القمر ، انطفأ ذلك الحماس وتحولت تلك الشعلة المتوهجةُ من نارٍ ساخنةٍ إلى نارٍ باردةٍ.