استهداف “العِيشْ” والزيادة السكانية في مصر.. بقلم: محمد أبو الفضل
يعد الاقتراب من أسعار الخبز من الملفات الحساسة ولأهميته يطلق عليه مصريون “العيش” ما يعني أنه يمثل مرادفا للحياة، لذلك عندما أشار الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى رفع الدعم عن الخبز قبل نحو أسبوعين جاءت ردود الفعل سلبية تجاه الخطوة، بما جعل الحكومة تتمهل ولم تقدم حتى حينه على رفع الدعم عنه.
يعتمد الاقتصاد المصري في جانب كبير منه على الجباية وفرض المزيد من الضرائب ويتحمل المواطنون الكثير من الأعباء الإضافية نظير الحصول على السلع والخدمات الأساسية، بينما لم يجد ملف الزيادة السكانية العناية الكافية للتعامل معه كأحد الأسباب الرئيسية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة.
وقد يجهض هذا الملف جهود التنمية ويقلل من فوائد المشروعات الحكومية الواعدة ويضاعف من نسبة الفقر التي تقترب حاليا من 30 في المئة، ويفقد الجدوى الحقيقية للإصلاحات الاقتصادية الأخيرة والتي لعبت دورا مهما في الحد من الآثار الكارثية التي كانت متوقعة إذا استمر التكلس وعدم تجديد المنظومة الاقتصادية.
يصل سكان مصر إلى نحو 105 ملايين نسمة، بزيادة سنوية تقترب من 1.8 في المئة، وأخفقت الكثير من التحركات التي حاولت وقفها أو تخفيضها، فكل البرامج التي دعت إلى الحد من زيادة السكان على مدار أربعة عقود فشلت في التوصل إلى نتيجة تقنع الناس بالاستجابة لنداءات الحكومة المتكررة، حيث يراها غالبية الناس لا تخاطبهم، وتخاطب فئة ضئيلة لا تعاني أصلا من أزمات اقتصادية أو اجتماعية.
تحتاج هذه البرامج التركيز على الفئات المعنية التي لا ترى غضاضة في أن يغص البيت بالأطفال، ويتم توجيهها إليهم مباشرة بناء على دراسات واقعية تتكفل بتوفير أفضل السبل الناجعة للتعاطي مع الظاهرة، لأن انفلاتها سوف يؤدي إلى مشكلات قد يصعب تطويق تداعياتها السلبية لاحقا عندما تنضب حيل الحكومة في سد العجز المادي الناجم عن الزيادة السكانية عبر اللجوء إلى سلاح تحريك الأسعار.
يعود فشل الحكومات المتعاقبة في السيطرة على الزيادة المستمرة إلى اصطدام جهودها بعادات وتقاليد وميراث ثقافي وديني عميق لا يؤمن بضرورة تحديد النسل عند طفلين أو ثلاثة، وعدم قدرة الجهات الرسمية على تقديم إغراءات وفرض غرامات على كل من يتجاوز هذا العدد خوفا من الدعاية المضادة التي يقوم بها الكثير من شيوخ السلفية الذين تصدوا مبكرا لكثير من التصورات والقوانين الرادعة.
يتولى هؤلاء العمل على ترسيخ فكرة رفض تحديد النسل من منطلق ديني ويسوقون خطابا تشويقيا وتحذيريا يلقى قبولا من شريحة كبيرة من المواطنين ما يتسبب في تخريب خطط الحكومة التي تسير في اتجاه فرملة الزيادة بينما يعمل آخرون في الاتجاه المقابل لها من دون أن تتمكن من تقويض دور العاملين في هذا الطريق.
يجد الدعاة السلفيون الفضاء الاجتماعي بيئة خصبة لرسائلهم التي يبثونها ليلا ونهارا من خلال وسائل دعائية مختلفة، ولا تتمكن الحكومة من مجابهتها، بما يعني أن البرامج التي تتبناها وتكلفها مبالغ مالية هائلة تذهب أدراج الرياح، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يكون مردودها ضئيلا في القاعدة العريضة من المجتمع التي تنجذب للخطاب السلفي وما ينطوي عليه من دغدغة للعواطف الدينية.
لم يتمكن دعاة المؤسسة الدينية الرسمية في مصر من فرملة السلفيين الذين يبيحون تعدد الزوجات ويشجعون على كثرة الإنجاب بذريعة أن ذلك يمثل إضافة قوية للإسلام، الأمر الذي ينسجم مع هوى مواطنين يتقربون إلى من يعزف نغمة تتسق مع رؤيتهم الخاصة بفكرة زيادة النسل كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
تستسهل الحكومة المصرية الحالية رفع أسعار السلع والخدمات بصورة مبالغ فيها أحيانا لسد جزء من العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة بدلا من التفكير في حلول أخرى، ولا تقوم بما يكفي لإقناع الناس بضبط الزيادة السكانية لأن العواصف التي تصطحبها الأولى أقل من نظيرتها في حالة إجبار الناس على الالتزام بإنجاب عدد معين من الأطفال يساعدون أسرهم في توفير سبل العيش لدى الطبقات الفقيرة.
هناك تقصير اجتماعي فاضح في العمل على نشر التوعية وتوصيل رسالة الحكومة بشأن أهمية الحد من الزيادة السكانية المخيفة، فكل التحركات التي قامت بها لم تجد أصداء بين الناس ومع ذلك لم تتغير آليات ووسائل المواجهة العقيمة، وثمة إصرار لرفض القيام بتعديلات في الإجراءات فتتسع الهوة بين الزيادة في الأسعار والسكان.
وصل الانفجار السكاني إلى مستوى مخيف في مصر، وعجزت تصورات وأفكار الحكومة عن توظيفه بشكل جيد في مجالات يمكن أن تدر فوائد للدولة، بما يعني احتمال أن تتمخض هذه الأوضاع عن العديد من المشكلات المسكوت عنها، لأن الزيادة تصطحب معها أمراضا متباينة تنخر في المجتمع ولا تستطيع أجهزة الدولة استيعاب روافدها المختلفة بصورة ربما تزيد الموقف تأزما.
تنظر شريحة كبيرة من الأسر في الريف المصري إلى كثرة الإنجاب بحسبانه عزوة اجتماعية ومصدرا لتحسين الدخل الاقتصادي، وهي مشكلة معقدة وتضاعف من أزمة عمالة الأطفال والتهرب من التعليم وزيادة منسوب الفقر والجهل والمرض، فالبعض يعتبرون كثرة الأطفال بمثابة استثمار حيث يتوجهون إلى سوق العمل في سن مبكرة لمساعدة الأب ما يمنحهم حصانة ذاتية ويمنعهم من الاستجابة لنداءات الحكومة التي أصبحت مطالبة بسد الفجوة في ارتفاع الأسعار على طريقتها.
يعد استهداف الخبز (العيش) واحدة من الحلقات الضيقة، فقد بالغت الحكومة في رفع أسعار الكثير من السلع الفترة الماضية كأنها لم تجد أمامها طريقا سوى الاستدارة لتحريك ملف الخبز المسكوت عنه منذ سنوات فالاقتراب منه يمكن أن يفجر مشكلات جانبية عدة ما يفرض أن تكون كل مقاربة نحوه مبنية على حسابات دقيقة وعميقة.
على الحكومة أن تفكر بطريقة عملية وتعترف بأن هناك تقصيرا فجا في التعامل مع أزمة الزيادة السكانية وأن الحلول المطروحة منذ فترة غير منتجة، بالتالي البحث عن خطط بديلة تتواءم مع الأجواء الاقتصادية في مصر وطقوسها الاجتماعية ولوازمها الثقافية المتجذرة، وتتمكن من سد الثغرات التي أدت إلى عدم التوصل إلى نتيجة مرضية، فمواصلة الدوران في دائرة مفرغة سوف يقود إلى المزيد من الأزمات.
نقلا عن صحيفة العرب