جاءت ألمانيا في المركز الأول في مؤشر القوة الناعمة لعام 2021؛ حيث حصلت على (62.2 درجة) من أصل 100 درجة، بعد أن كانت في المركز الثاني في مؤشر عام 2020 (61.9 درجة)، وقدمت ألمانيا أداءً ثابتًا وجيِّدًا عبر 11 مقياسًا، حيث جاءت في المراتب الخمس الأولى في تسعة من هذه المؤشرات الفرعية، وحققت أداءً ممتازًا في مؤشرات العلاقات الدولية، والحوكمة، وركائز الأعمال والتجارة، فيما اعتُبِر ترتيبها في مؤشر المواطنون والقيم متأخرًا للغاية؛ حيث جاءت في المركز الخامس عشر.
وكان لاستجابة المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” لجائحة كورونا تأثير كبير على مصداقية البلاد، حيث رأى الجمهور المتخصص الذين شملهم الاستطلاع أن ألمانيا تعاملت مع الوباء بشكل أفضل، وصنف عامة الناس الدولة في المرتبة الخامسة بعد نيوزيلندا وسويسرا واليابان وكندا.
عناصر التميز في التجربة الألمانية
النشاط الاقتصادي
لعبت الشركات والعلامات التجارية دورًا كبيرًا في تحسين ترتيب الدولة في مؤشر القوة الناعمة، ومن أبرز ما يُمكن الإشارة إليه في هذا الصدد، الجمعية الألمانية للشركات متوسطة الحجم (Bundesverband mittelständische Wirtschaft) “BVMW”، والتي تضم 3.5 ملايين شركة صغيرة ومتوسطة الحجم مملوكة للقطاع الخاص.
هذا، وتُعد الشركات الصغيرة والمتوسطة العمود الفقري للاقتصاد الألماني؛ إذ ينتمي 99.5% من الشركات الألمانية إلى القطاع متوسط الحجم، وتُمثِّل الشركات متوسطة الحجم الحصة الكبرى من الناتج الاقتصادي للبلاد، وتوظف نحو 60% من العمال في البلاد، كما توفر أنشطة تدريبية، وتُسهِم بنسبة كبيرة في عائدات الضرائب في ألمانيا. ويُضاف إلى ذلك الدور الرائد لهذه الشركات في مجال التكنولوجيا والابتكار؛ فمن بين 2700 شركة رائدة في سوق الابتكار العالمية، ما يقرب من نصفهم شركات ألمانية صغيرة ومتوسطة الحجم. وقد أسهمت الشركات الألمانية الصغيرة ومتوسطة الحجم بشكل كبير في تحسين صورة ألمانيا وسمعتها الدولية، وذلك من خلال اتساع أنشطتها على الصعيدين المحلي والدولي، لا سيَّما مع ارتفاع الطلب على منتجات تلك الشركات في جميع أنحاء العالم؛ لارتفاع جودتها، ويضع المجتمع ثقة كبيرة في الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة؛ إذ تم تدريب أكثر من 80% من الألمان في تلك الشركات، بالإضافة إلى أن عدم تقيُّد نشاط تلك الشركات بالحدود الوطنية أسهم في تعزيز القوة الناعمة للدولة.
التعليم والعلوم
تحظى ألمانيا بنظام تعليم مهني يتسم بالمرونة؛ إذ يمكن للأفراد تلقي التدريب سواءً في مدرسة مهنية، أو في إحدى الشركات، وهو ما يعمل على تعزيز العلاقات التكاملية بين الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم وتلك المدارس، وقد استقت العديد من الدول التجربة الألمانية في هذا التدريب المزدوج (Two-Tier Way of Training) .
التحول الرقمي في ألمانيا
يُعد التحول الرقمي ركيزة أساسية لتعزيز الحوكمة، وتعد الأخيرة أحد أبرز المؤشرات الفرعية لمؤشر القوة الناعمة، وفي هذا الإطار جاءت ألمانيا في المرتبة السادسة لمؤشر الأونكتاد للتجارة الإلكترونية لعام 2020، وحصلت على 93.4 درجة، بفارق 0.6 درجة عن العام السابق 2019، والذي جاءت خلاله في المرتبة التاسعة، وتتمتع الصناعة الألمانية بالريادة في تطوير وإنتاج الأنظمة المدمجة والآلات المعقدة، ويُعد التحول الرقمي للقطاع العام الألماني جزءًا لا يتجزأ من عملية إصلاح واسعة النطاق تركز على الرقمنة، والحد من البيروقراطية في الخدمات العامة، وبحلول عام 2022، ستتم رقمنة 575 خدمة عامة.
وتستغل الشركات الألمانية التقنيات الجديدة، مثل: الذكاء الاصطناعي؛ لتقديم خدمات جديدة، ومنتجات ذات قيمة عالية، وجدير بالذكر أن جائحة كورونا لعبت دورًا في تسريع جهود الرقمنة في ألمانيا؛ إذ أثرت بشدة على سلاسل التوريد الخاصة بالمصنّعين الألمان، وزادت من الضغوط المفروضة عليهم لإضفاء الطابع الرقمي على الإنتاج، وجعله أقرب إلى العملاء.
ووفقًا لتقرير نشرته مؤسسة (ISG Provider Lens)، وهي شركة عالمية رائدة في مجال البحوث والاستشارات التكنولوجية، فإن الصناعة التحويلية في ألمانيا شرعت في المنافسة على أبعاد جديدة، بما في ذلك سرعة التنبؤ بطلبات العملاء المتغيرة، والاستجابة لها، ورغم أن البلاد قد قطعت بالفعل أشواطًا في اتجاه التحول الرقمي في وقت سابق على الجائحة، فإن الظروف التي فرضها الوباء العام الماضي أدت إلى تسريع الاتجاه نحو الرقمنة.
محور “الطاقة” في استراتيجية القوة الناعمة الألمانية
تُعد الطاقة أحد أبرز مرتكزات استراتيجية القوة الناعمة الألمانية؛ إذ تستهدف ألمانيا تعزيز شراكاتها الدولية في مجال تحوُّل الطاقة، وذلك استنادًا إلى مكانتها الرائدة في هذا المجال. فمنذ التسعينيات، تدعم ألمانيا التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، والاستغناء عن مصادر الطاقة غير المتجددة بما يسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية، وفي عام 2000، صدر أول القرارات الرامية إلى إعادة هيكلة نظام الطاقة الألماني، ولعل أبرز أهداف عملية إعادة هيكلة نظام الطاقة الألماني هو دعم وصولها إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2045. وقد سعت الحكومة الألمانية إلى تعزيز الاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة؛ مما أدى إلى انخفاض تكاليف إنتاجها؛ ومن ثمّ أضحت أسعار الكهرباء المتولدة عن منشآت الرياح والطاقة الشمسية قادرة على منافسة أسعار الطاقة المتولدة عن الفحم، وكذا الطاقة النووية.
“تحول الطاقة” على أجندة السياسة الخارجية الألمانية:
انعكست سياسة “تحول الطاقة” التي انتهجتها ألمانيا على سياستها الخارجية؛ إذ اضطلعت ألمانيا، ولا تزال، بدور مهم في دعم الشراكات والجهود الرامية إلى تعزيز التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، وفي عام 2002، كان مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا بمثابة منصة لألمانيا دعت من خلالها المجتمع الدولي إلى التحوُّل إلى مصادر الطاقة المتجددة، وفي العام نفسه، دشَّنت ألمانيا برنامج “مصادر الطاقة المتجددة – صنع في ألمانيا”؛ وذلك للترويج لصادراتها من الطاقة المتجددة، وتحفيز التعاون الدولي في هذا المجال.
شراكات ألمانية دولية في مجال الطاقة النظيفة:
أطلقت ألمانيا أولى شراكاتها في الطاقة المتجددة مع كلٍ من الهند والصين في عام 2006، وفي السنوات التالية، عقدت ألمانيا شراكات مماثلة مع كلٍ من البرازيل، والمغرب، وتونس وجنوب إفريقيا، ونيجيريا، وتُعد هذه الشراكات مرتكزًا رئيسًا لاستراتيجية القوة الناعمة الألمانية، وتخضع لإشراف وزارة الخارجية أو الوزارة الاتحادية للشؤون الاقتصادية والطاقة، وتسهم هذه الشراكات في زيادة الوعي الدولي بأهمية التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة؛ ففي حالة جنوب إفريقيا، أدت الشراكة مع ألمانيا إلى تعزيز الوعي بالقضايا المتعلقة بتحولات الطاقة بين الجهات الحكومية.
وبالاتساق مع الجهود الألمانية لتعزيز التحول في الطاقة عالميًّا، كان للمناخ وقضايا البيئة دورًا رئيسًا في الدبلوماسية الألمانية خلال السنوات العشر الماضية؛ ولذا اتجهت الخارجية الألمانية لتعيين مبعوث خاص لقضايا المناخ والطاقة، وعزَّز اهتمام الدبلوماسية الألمانية بقضايا التغير المناخي والتحول للطاقة المتجددة الصورة الذهنية لألمانيا على الساحة الدولية؛ فاستطلاعات الرأي بشأن التصورات حول استراتيجية تحول الطاقة في ألمانيا خلال السنوات 2012 و2015 و2017 كشفت أن دول العالم (خصوصًا من خارج أوروبا مثل المغرب) ينظرون بإعجاب إلى النموذج الألماني في هذا الصدد.
|