قبل أيامن من الملء الثاني .. سيناريوهات حل أزمة سد النهضة
أيام قليلة تفصل دولتي مصب نهر النيل (مصر والسودان) عن خطة إثيوبيا بشأن الملء الثاني لسد النهضة الذي تشيده أديس أبابا على النيل الأزرق، مما يعمق الخلاف الإقليمي بشأن المشروع.
وتثار تساؤلات بشأن ما تبقى أمام مصر من خيارات، في وقت رجح فيه مراقبون جيولوجيون، بعد الاستعانة بصور الأقمار الصناعية، أن الملء الثاني ربما يقل عن أربعة مليارات متر مكعب من المياه وليس 13.5 كما كان مخططا.
أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، الذي يتابع مراحل الملء الثاني عبر الأقمار الصناعية قال، إن أحدث الاستنتاجات تظهر أن الإثيوبيين على وشك الانتهاء من صب خرسانة يبلغ طولها أربعة أمتار بدلا من 30 مترا، وهذا يعني أن المرحلة الثانية للتخزين ستسع لأقل من 4 مليار مكعب من المياه “حتى الآن”.
وتقول أديس أبابا إنها ستبدأ الملء الثاني لخزان السد بعد هطول الأمطار الموسمية هذا الصيف، وهي خطوة يعارضها السودان ومصر، ويطالبان باتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل السد الذي تبلغ تكلفته عدة مليارات من الدولارات.
وأضاف شراقي “الأمطار تتزايد، لكن لا تزال بحيرة سد النهضة بنفس الحجم الذي كانت عليه الشهور السابقة، وتخزين المرحلة الثانية لم يبدأ بعد”.
وبدأت إثيوبيا العام الماضي ملء الخزان خلف السد، والذي لا يزال قيد الإنشاء على النيل الأزرق بالقرب من الحدود مع السودان.
ويستبعد شراقي أن تتمكن إثيوبيا من زيادة ارتفاع الخرسانة في الشهرين المقبلين، قائلا: “في منتصف أغسطس سيزيد الفيضان، ويمر من أعلى السد، وبالتالي يصعب إقامة أي خرسانة في هذا الوقت”.
لكنه عاد ليقول إن إثيوبيا يمكنها زيارة ارتفاع الخرسانة حتى 15 يوليو المقبل، مضيفا “ستتجمع المياه أمام السد، في الأسبوعين المقبلين، أما بعد منتصف يوليو سيزيد الفيضان وستعلو المياه فوق السد”.
وفي المقابل يشكك ياسين أحمد رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية في استنتاجات الأقمار الصناعية، قائلا: “هذه صور ليست دقيقة، ومن يمتلك المعلومة على أرض الواقع هي إثيوبيا التي أكدت أن الملء سيبلغ 13.5 مليار متر مكعب”.
وأجج هذا المشروع القلق في القاهرة من تراجع إمدادات المياه الشحيحة أصلا من النيل، التي يعتمد عليها أكثر من 100 مليون نسمة بشكل شبه كامل.
وتعتمد مصر على النيل في الحصول على ما يصل إلى 90 في المئة من مياهها العذبة، وتعتبر السد تهديدا وجوديا محتملا. فيما يشعر السودان بالقلق إزاء تشغيل السد على سدوده على النيل ومحطات المياه الخاصة به.
وعما إذا كان موسم الأمطار هذا العام سيعود بالإفادة على مصر ولا تؤثر كمية التخزين الإثيوبية على حصتها، قال شراقي: “حالة الأمطار غير مؤكدة، يصعب القول الآن إن الهطول قوي أو أقل من المتوسط، ولا نستطيع بناء سياساتنا على هذا التوقع”.
وتابع قائلا: “الكمية ليست هي الموضوع الآن (…) مصر استعدت للسيناريو الأسوأ وهو تخزين 13 ونصف مليار متر مكعب”.
وبحسب شراقي، فإن المؤشرات تظهر أن كمية الأمطار هذا العام ستبلغ بين المتوسط أو القوي، “لكنها تظل غير مؤكدة، وبالتالي تأثير مصر لا يستند على حالة الأمطار، لكنها قامت بتدابير عديدة في السنوات السابقة، لتوفير المياه في خزان السد العالي”.
وكان وزير الري المصري قال، في تصريحات تلفزيونية أبريل الماضي، إنه في حين أن الاحتياطيات في السد العالي بأسوان يمكن أن تساعد في التغلب على آثار الملء الثاني لسد النهضة، إلا أن مبعث قلقه الرئيسي يتمثل في إدارة الجفاف.
ومن بين الخلافات بين الأطراف هي طريقة عمل السد خلال “سنوات الجفاف” التي يقل فيها هطول الأمطار، وكذلك قضايا قانونية تتعلق بما إذا كان الاتفاق وآليته لحل النزاعات ينبغي أن يكونا ملزمين.
ويقول شراقي: “المياه التي يوفرها السد العالي هي التي ستعوض مصر عن الكمية التي سيخزنها سد النهضة، سواء كانت أقل أو أكثر من أربعة مليارات متر مكعب”.
وتابع “نحن حريصون على تعويض الكمية التي سنستخدمها من خزان السد العالي، لأن هذا الاحتياطي مخصص لسنوات الجفاف وليس لتعويض سد النهضة. فإذا اعتمدنا عليه في التغلب على آثار الملء الثاني، يمكن أن تتعرض مصر لخطر إذا حدث جفاف”.
وتثير خطوة الملء الثاني قلق دولتي المصب، السودان ومصر، اللتين كانتا تسعيان إلى إبرام اتفاق ملزم قانونا بشأن تشغيل السد، وكثفتا جهودهما للوصول إلى اتفاق قبل المرحلة الثانية من ملئه.
وتعثرت مرارا المحادثات التي كانت تهدف للتوصل إلى اتفاق من هذا القبيل.
ويؤكد شراقي أن الهدف الرئيس من المحادثات هو “الاعتماد على السد العالي بأقل ما يمكن، وأن تخزن إثيوبيا المياه على سنوات أطول حتى يقل الضرر”.
وفي المقابل تقول إثيوبيا إن سد الطاقة الكهرومائية مهم لتنميتها الاقتصادية، وإنها تؤكد حقوقها في مياه النيل التي تسيطر عليها دول المصب منذ فترة طويلة بموجب اتفاقيات الحقبة الاستعمارية.
أما مصر فينصب تركيزها على ضمان اتفاق عادل يقتصر على سد النهضة، وتقول إن حديث إثيوبيا عن تصحيح مظالم الحقبة الاستعمارية هو خدعة تهدف إلى صرف الانتباه عن محاولة فرض أمر واقع على جارتيها.
ويقول أحمد: “إثيوبيا تطالب بالعدالة المائية، وترى في سد النهضة مشروعا تنمويا اقتصاديا قد يكون مصدرا لتعزيز التعاون في الإقليم. تم حرمان أديس أبابا من استخدام مواردها الطبيعية في مياه النيل الأزرق لأكثر من 100 عام”، الأمر الذي وصفه بـ”احتكار وهيمنة مياه النيل الأزرق من قبل مصر والسودان”.
وأضاف “إثيوبيا أصبحت دولة محورية في القارة الإفريقية، وليس ممكنا أن تقبل أن يكون نصيبها صفر من مياه النيل الأزرق”.
وتابع “الحل يكمن في العدالة المائية والمصالحة النيلية لأننا لن نقبل أن نعيش في الظلام”، متسائلا: “هل ترضى مصر وإثيوبيا أن يعيش 70 مليون إثيوبي في الظلام وبدون نهضة اقتصادية، بينما تنعم مصر بالنهضة الاقتصادية وتصدر طاقة كهربائية”؟
وتخشى مصر أن يعرض السد إمداداتها من مياه نهر النيل للخطر، في حين يساور السودان القلق بشأن سلامة السد وتنظيم تدفق المياه عبر السدود ومحطات المياه على أراضيه.
ويعلق أحمد قائلا: “إثيوبيا تضمن أن تتدفق مياه النيل الأزرق إلى دولتي المصب، لأنه معروف أن السد الكهرومائي لا يحتجز المياه إنما يخزنها لفترة ما لتوليد الطاقة الكهربائية.
بينما تبلغ سعة التخزين في السد العالي أكثر من 160 مليار متر مكعب من المياه، أي أن مصر تمتلك احتياطيا استراتيجيا يستمر من ثلاث إلى أربع سنوات خلال الجفاف”، على حد قوله.
أوراق مصر
والأسبوع الماضي، أرسل السودان ومصر رسائل تطالب مجلس الأمن الدولي ببحث القضية.
ويقول أستاذ العلوم السياسية، معتز عبد الفتاح، إن مصر أمام خيارين الآن أولهما دبلوماسي وقانوني وثانيهما عسكري.
ويرى عبد الفتاح أن الطلب المصري من مجلس الأمن الدولي للاجتماع لبحث ملف سد النهضة، يعني “إما أن يتدخل ويقف العالم مع قضية مصر والسودان الآن أو يصمتوا إلى الأبد”.
وقال: “لو قررت مصر والسودان اللجوء للخيار العسكري، فلن يكون المجتمع الدولي محقا في إدانة أو استنكار هذا الفعل، لأنه طُلب منه التدخل دبلوماسيا”.
وفيما يتعلق بالخيار القانوني، يعتقد عبد الفتاح أن مصر قد تلجأ إلى الانسحاب من اتفاق إعلان المبادئ الموقع، في مارس 2015، مع السودان وإثيوبيا.
وكانت وزارة الخارجية المصرية قالت إن هذا الاتفاق يوفر “إطارا لالتزامات وتعهدات تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين الدول الثلاث بشأن أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي بعد انتهاء دراسات مشتركة قيد الإعداد”.
ويشمل الاتفاق عشرة مبادئ أساسية تتسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية، بحسب الوزارة.
ويقول عبد الفتاح إن مصر، في هذه الحالة، “ستعلل سبب انسحابها بأن إثيوبيا لم تلتزم بمبادئ بعينها من الاتفاق، وأنها لم تتعامل مع حسن النية المصري والسوداني بحسن نية مقابل، وتعمدت فرض إرادتها (…)”.
ضغوط دولية
وفي أحدث جولاته بالمنطقة، زار المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، في وقت سابق من يونيو الجاري، دولا إقليمية، وبحث في جولاته “حل النزاع بشأن سد النهضة الإثيوبي بشكل مقبول لكل الأطراف”، وذلك عقب زياراته مصر والسودان وإثيوبيا.
وتعليقا على استنتاجات الأقمار الصناعية التي تظهر أن الملء الثاني سيسع لأربعة مليارات متر مكعب من المياه، قال عبد الفتاح: “أعتقد أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أبلغا إثيوبيا أنها تعرض استقرار المنطقة إلى خطر شديد، بسبب تبنيها سياسات المكسب الأقصى، دونما اعتبار لفكرة المكسب المعقول وتبادل المنافع مع دول الجوار”.
وعما إذا كانت هذه الخطوة الإثيوبية، إن صحت، ستبعد شبح “الرد الخشن” المصري-السوداني، قال: “ممكن إذا كانت مقدمة لعلاقات قائمة على التعاون، وتقاسم المنافع بدلا من فرض الإرادة المنفردة لإثيوبيا على الدول الأخرى”.
ومؤخرا أجرت مصر والسودان أكثر من تدريب عسكري مشترك بينهما على الأراضي السودانية.
ويرى عبد الفتاح أن إثيوبيا تتبنى ثلاث استراتيجيات في التعامل مع أزمة سد النهضة، الأولى هي “حافة الهاوية؛ حتى تصل إلى مفاوضات اللحظة الأخيرة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع وتجنبا لمواجهة عسكرية مع مصر والسودان”.
والأحد، رفض السودان مقترحا إثيوبيا بشأن الملء الثاني، قائلا إنه ليس حقيقيا ووصفه بأنه وسيلة لكسب الوقت. وأضاف مسؤول سوداني بازر لرويترز أن أي اقتراح من هذا القبيل يجب أن يكون تحت رعاية وسطاء الاتحاد الأفريقي وأن يشمل جميع الأطراف.
وأوضح المسؤول أن إثيوبيا طرحت شروطا مستحيلة تتعلق بتقسيم حصة المياه التي يعتبرها السودان خارج نطاق المفاوضات بينما لم تعلق مصر على الطرح.
أما الاستراتيجية البديلة الثانية، في رأي عبد الفتاح، فتتمثل في “المال مقابل المياه؛ حتى يتم النظر إلى المياه كمورد اقتصادي”.
وكان المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتى قال في لقاء مع قناة “الجزيرة” إن بلاده ستبيع المياه لمن يريد، لكنه تراجع لاحقا قائلا إن تصريحاته فهمت خطأ، وأن بلاده لا تفكر في بيع المياه.
ويتحدث عبد الفتاح عن استراتيجية ثالثة تتحدث عن “المواجهة العسكرية كوسيلة لدعم وحدة الشعوب الإثيوبية، لمواجهة عدو مشترك خارجي وصناعة البطل الذي يدافع عن المصالح المشتركة والوطنية للشعوب الإثيوبية”، على حد قوله.
ويستغرب أحمد من طرح هذه الاستراتيجيات، قائلا: “إثيوبيا تطمح للتعاون الاقتصادي في الإقليم، والدول الثلاث تحتاج إلى بعضها البعض”.
“استفزازات” متبادلة
والأسبوع الماضي، أجرت إثيوبيا -التي يقطنها 109 ملايين نسمة- الانتخابات تشريعية ومحلية وصفتها الحكومة بأنها أول تصويت حر في تاريخ البلاد. مع ذلك، شابتها مقاطعة من المعارضة وحرب وتقارير عن تجاوزات في بعض المناطق.
ولم تتمكن السلطات من إجراء الانتخابات في أربعة من أقاليم إثيوبيا العشرة، الاثنين الماضي.
ولم تُجر الانتخابات في منطقة تيغراي، حيث يشنّ الجيش الفدرالي منذ نوفمبر عملية لطرد السلطات المحلية الانفصالية المنبثقة عن جبهة تحرير شعب تيغراي. ومذاك، أنشأت أديس أبابا إدارة انتقالية في تيغراي.
وفي أبريل الماضي، كان لافتا تحذير غير معتاد للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موجه لإثيوبيا من خطر نشوب صراع بسبب سد النهضة، قائلا: “شوفنا حجم التكلفة اللي بتترتب على أي مواجهة”، في إشارة إلى صراعات سابقة في المنطقة.
وفي المقابل، واظب المسؤولون الإثيوبيون على الحديث عن المواجهات العسكرية، وكان من بين ذلك تصريحات سابقة لرئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، قال فيها: “إذا كنا سنحارب… فإننا نستطيع نشر ملايين كثيرة (من المقاتلين)”، فيما عبرت مصر حينها عن صدمتها ومتابعتها بقلق بالغ لذلك.
لكن عبد الفتاح يتوقع أن تتغير لهجة أبي أحمد بعد الانتخابات الأخيرة، قائلا: “أتوقع أنه يكون أكثر مرونة، لأنه يعلم أنه يراهن على صمت مصر والسودان، وعلى انشغال العالم بقضايا أخرى أكثر أهمية من سد النهضة”.
والجمعة الماضية، قال مدير إدارة الهندسة في وزارة الدفاع الإثيوبية الجنرال بوتا باتشاتا ديبيلي، في مقابلة مع قناة “روسيا اليوم”، إن بلاده مستعدة للدفاع عن سد النهضة ضد أي هجوم يمس سيادتها، مضيفا أن “مصر لا يمكنها تدميره حتى لو أرادت ذلك”.
ورد وزير الخارجية المصري على هذه التصريحات، قائلا إن المسؤولين الإثيوبيين “يطلقون تصريحات استفزازية عن العمل العسكري، لصرف الأنظار والتهرب من الاتفاق”.
لكن أحمد يرى النقيض لذلك، قائلا: “مصر والسودان هما الدولتان اللتان قامتا بالمناورات العسكرية (نسور النيل 1 و2، وحماة النيل) الأمر الذي يحمل تهديدا استفزازيا لإثيوبيا التي جاء موقفها منضبطا”.