بيسان… حين تنطق الأرض بالنبوة وتشتعل بالتاريخ

بقلم: ناصر السلاموني
أثار انتباهي في الأيام الأخيرة تكرار اسم “بيسان” على شاشات الأخبار، في سياق الضربات الإيرانية الموجهة للعمق الإسرائيلي، فعادت المدينة التي طالما سكنت الذاكرة إلى واجهة الأحداث. دفعتني تلك اللحظة إلى استرجاع ما أعرفه عن بيسان: موقعها، تاريخها، رمزيتها في الحديث النبوي، حضورها في ذاكرة الجهاد والمقاومة… فإذا بالمشهد أمامي يتكوّن لا كخبرٍ عابر، بل كصفحةٍ حية من التاريخ تتجدّد.
بيسان، أو بيت شان كما تُعرف في النصوص القديمة، ليست بلدة فلسطينية عادية، بل واحدة من أقدم مدن المشرق العربي. تقع شمال شرق القدس، على بعد 83 كيلومترًا منها، وتطل على غور الأردن، متوسطة سهولًا خصبة جعلتها منذ آلاف السنين مقصدًا للفراعنة والكنعانيين والرومان، ثم أرضًا مباركة في الفتح الإسلامي. عرفت بيسان يومًا بأنها أرض النخيل والماء والزرع، حتى جاء عام النكبة 1948، فطُرد أهلها العرب، واحتلتها العصابات الصهيونية، وأُقيمت على أنقاضها مستوطنات صهيونية، ليتحول اسمها من رمز للخصوبة إلى شاهد على الاغتصاب. لكن الأسماء لا تموت، والتاريخ لا يُمحى.
في حديث عجيب يرويه مسلم في صحيحه، جاء على لسان الدجال أثناء محاورته مع الصحابة: “أخبروني عن نخل بيسان، هل يُثمر؟ قالوا: نعم. قال: أما إنه يوشك أن لا يُثمر.” حديث يحمل من الرمزية والدقة ما يدعو للتأمل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى مدينة تُعرف بوفرة نخيلها، ويخبر أن وقتًا سيأتي عليها تتوقف فيه عن الإثمار. وكأن الأرض تفقد بركتها، أو تتحول من مهدٍ للخير إلى ساحة للفتن. واليوم، حين ننظر إلى بيسان، لا نرى النخيل، بل نرى العسكر، والمدرعات، والتحصينات. لم تعد مدينة خضراء، بل منطقة أمنية حساسة في خريطة الاحتلال، لا تُثمر إلا توترًا وقصفًا وتهديدًا.
قبل هذا كله، وفي زمن مجد الإسلام، سطعت بيسان في واحدة من أعظم معارك الفتح. ففي عام 635م، خاض الصحابة بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وبمعية معاذ بن جبل وسعيد بن زيد وهاشم بن عتبة، معركة كبرى ضد جيش الروم الذي بلغ تعداده أكثر من 80 ألف جندي، بينما لم يكن عدد المسلمين يتجاوز 25 ألفًا. ورغم الفارق الكبير في العدد والعدة، حقق المسلمون نصرًا ساحقًا، وقُتل أغلب الجيش البيزنطي، وفتحت الشام، وكانت بيسان بوابة المجد، وأرضًا سالت فيها دماء الطاهرين فصنعت التاريخ.
ثم تعود بيسان إلى المشهد مرة أخرى في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تحديدًا في 28 نوفمبر 2002، حين اقتحم فدائيون من كتائب شهداء الأقصى مركز اقتراع لحزب الليكود في المدينة المحتلة، أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب، وأطلقوا النار وألقوا القنابل اليدوية، فقتلوا ستة مستوطنين وجرحوا أكثر من ثلاثين. لم تكن العملية عسكرية فقط، بل كانت رسالة تقول إن الذاكرة لا تموت، وإن الأرض لا تخضع لمن احتلها، مهما طالت السنين.
وفي مشهد اليوم، وفي ظل التوتر العسكري المتصاعد بين إيران وإسرائيل، تعود بيسان من جديد إلى واجهة الأحداث، لا كنخلة تُثمر، بل كنقطة اشتعال محتملة في معركة إقليمية قد تعيد رسم الخرائط. التقارير الأخيرة تشير إلى ضربات إيرانية داخل إسرائيل، وتهديدات صريحة بتوسيع العمليات لتشمل أهدافًا عسكرية واستراتيجية في العمق، منها مواقع قرب غور الأردن، حيث تقع بيسان. في المقابل، نفذت إسرائيل غارات جوية على مواقع إيرانية في سوريا والعراق، وسقط قادة من الحرس الثوري في العمليات.
في هذا السياق، تبدو بيسان وكأنها عادت إلى قلب النبوءة… المدينة التي توشك أن لا تُثمر، لا لأنها جُرفت زراعيًا، بل لأنها تحوّلت إلى منصة لصراع الكبار، وساحة لفتن الغيب، وصدى لأحاديث النبي. فهل ما نشهده اليوم هو مظهر من مظاهر انقطاع البركة؟ هل ما يحدث في بيسان هو جزء من مشهد فتنة أكبر لم تتضح ملامحه بعد؟
بيسان اليوم، كما كانت في الأمس، ليست مجرد جغرافيا، بل رمزٌ مركّب يجمع بين النبوة والتاريخ والواقع. من الحديث الشريف، إلى سيوف الصحابة، إلى بنادق الفدائيين، إلى صواريخ اليوم… بيسان مدينة تأبى أن تكون عابرة، وتحمل في صمتها ما لا تقوله العواصم.
قد لا يُثمر النخل في بيسان، لكن الثمار الأخرى لم تنقطع يومًا. ثمار الفداء، والإيمان، والصبر، والمقاومة.
فالمدينة التي خَبَت نخيلها، لا تزال تُنبت رجالًا.
والأرض التي تاهت فيها البركة، لا تزال شاهدة على اقتراب الفتن الكبرى.