فلسطين بين مطرقة الانقسام وسندان الفيتو: مأساة لم تكتمل فصولها

بقلم ناصر السلاموني
تأسست حركة “فتح” الفلسطينية في عام 1959، بقيادة ياسر عرفات ورفاقه، كحركة تحرر وطني تسعى لاستعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة. وتطورت لاحقاً لتصبح العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم العمود السياسي للسلطة الوطنية الفلسطينية التي تأسست في أعقاب اتفاق أوسلو عام 1993. نالت منظمة التحرير الفلسطينية – التي تقودها حركة فتح – اعترافاً دولياً واسعاً بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما أقرته الجامعة العربية عام 1974 وتبعته معظم دول العالم، بما فيها الأمم المتحدة. وقد مثّل هذا الاعتراف مكسباً سياسياً كبيراً للقضية الفلسطينية، إلا أن فعاليته تراجعت بفعل الانقسامات الداخلية وتبدل المواقف الدولية.
لعبت مصر دوراً تاريخياً في دعم حركة فتح والسلطة الفلسطينية، منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي احتضن الثورة الفلسطينية وفتح لها أبواب الإعلام والتدريب. واستمر هذا الدعم مع السادات، الذي حافظ على قنوات التواصل مع منظمة التحرير، ثم الرئيس مبارك، الذي كان له دور مفصلي في تمكين ياسر عرفات من دخول الأراضي الفلسطينية عام 1994 عبر معبر رفح، بعد اتفاق أوسلو. كما وقف مبارك بحزم ضد محاولات عزل عرفات أثناء حصاره في المقاطعة برام الله. أما الرئيس عبد الفتاح السيسي، فقد واصل الدعم السياسي والإنساني، وسعى لرأب الصدع بين الفصائل الفلسطينية.
تمتلك السلطة الفلسطينية أدوات إدارية وأمنية محدودة بموجب اتفاق أوسلو، وتبسط نفوذها فقط على أجزاء من الضفة الغربية، في ظل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي المباشرة أو غير المباشرة على كل مفاصل الأرض. تتعاون أجهزتها الأمنية مع إسرائيل ضمن ما يُعرف بـ”التنسيق الأمني”، وهو تعاون جدلي، يرى فيه البعض ضرورة لحماية الأمن الداخلي، فيما يعتبره آخرون مساهمة في ملاحقة المقاومين وقمع الحريات. وغالباً ما تتعرض السلطة للتهديد من إسرائيل، ويُنتقص من سيادتها بالدخول للمخيمات الفلسطينية واعتقال المواطنين دون قدرة السلطة على الرد.
تعتمد السلطة الفلسطينية على الدعم الخارجي كمصدر رئيسي للدخل، خاصة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مما يجعلها عرضة للابتزاز السياسي. وتفتقر لموارد اقتصادية حقيقية نتيجة الاحتلال والاستيطان ومصادرة الأراضي، مما يحدّ من قدرتها على تقديم خدمات مستقلة أو دعم اقتصادي فعّال للشعب.
رغم وحدة الهدف المعلنة بين الفصائل الفلسطينية، فإن العلاقة بين حركة فتح وحركة حماس اتسمت بالتوتر والصراع، خاصة بعد فوز حماس في انتخابات 2006 وسيطرتها على قطاع غزة عام 2007. ترى حماس أن السلطة متواطئة مع الاحتلال عبر التنسيق الأمني، فيما تتهمها فتح بتقويض المشروع الوطني والتعامل الحزبي مع المقاومة. وأسهم الانقسام في إضعاف الموقف الفلسطيني إقليمياً ودولياً.
كانت مصر – ولا تزال – الراعي الأول لمحاولات الصلح بين الفصائل الفلسطينية، مستضيفة جولات حوار لا تُحصى بين فتح وحماس والجهاد الإسلامي وغيرها، سعياً لإنهاء الانقسام. إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب غياب الثقة، وتشابك الحسابات الإقليمية والفصائلية، وتغليب المصالح الحزبية على الوطنية.
الانقسام بين غزة والضفة، وبين فتح وحماس، أفقد الفلسطينيين قوتهم التفاوضية، وعزل غزة عن الضفة، وأعطى لإسرائيل ذريعة لتكريس الاحتلال ورفض أي حل نهائي. كما أضعف التضامن الدولي، وأفشل المبادرات السياسية والإنسانية، وشرذم القضية في عيون العالم.
رغم تبني الجامعة العربية للقضية الفلسطينية كقضية مركزية، إلا أن جهودها غالباً ما تصطدم بالتشتت العربي وغياب آلية تنفيذية موحدة. القرارات تُتخذ بالإجماع، ولكن دون آليات إلزام، مما يجعلها حبراً على ورق، تُفقد المصداقية وتُجهض المبادرات.
من المفارقات أن الأمم المتحدة اعترفت بإسرائيل عام 1949، رغم نشأتها على حساب شعب آخر، بينما لا تزال فلسطين تُمنع من العضوية الكاملة، رغم استيفائها الشروط. السبب هو الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، واستخدام واشنطن للفيتو لإفشال أي قرار ينصف الفلسطينيين، في تجلٍّ واضح لهيمنة المصالح على القيم.
هكذا يتبين أن القضية الفلسطينية لم تُضع فقط بفعل الاحتلال والخذلان الدولي، بل ضاعت أكثر بسبب الانقسام الداخلي والصراع على السلطة، وغياب مشروع وطني موحّد يجمع الكل الفلسطيني تحت راية الوطن. سيبقى الحلم الفلسطيني مؤجلاً ما لم تُقدَّم مصلحة الوطن على مصلحة الفصيل، ويتوحد الصف في مواجهة عدو لا يرحم ولا يفرّق بين فلسطيني وآخر.