«أقوى من الموت» فيلم تسجيلي بطله مواطن يحب الحياة
في غمرة الأحزان والآلام والفُقدان المُستمر لفلذات الأكباد من الأبناء، لا تزال هناك أحلام يتشبث بها أهل غزة الباسلين الواقفين في وجه الموت، وبالتوازي تنشط الحركة السينمائية التسجيلية الداعمة للمقاومة الذاتية الكامنة داخل المواطن الفلسطيني الغزاوي وغيره من مواطني سائر المُدن والقرى، فبدورهم يُفتش المُبدعون المضطلعون بتوثيق الأحداث الجارية من كُتاب ومخرجين عن النماذج والأمثلة التي لا تعرف لليأس طريقاً وتعتمد مبدأ المقاومة حتى الرمق الأخير.
تلك النماذج البطولية يُمثلها في فيلم «أقوى من الموت» للمخرج سعود مهنا والمُخرج المُساعد يوسف خطاب، مُثقف نوعي مُختلف في تكوينه وشخصيته، يتجاوز عمره الستين عاماً ببضع سنوات، هذا الرجل هو إبراهيم خشان، باحث وأخصائي اجتماعي عمل مع وكالة الأونروا وأسس جمعية الإنسان التنموية وتولى إدارتها بوصفه رئيساً لها، فقد ابنه الأكبر ذخيرة حياته وسنده بعد أن قصف العدو الصهيوني بيوت أهله وأبناءه جميعاً في لحظة مشؤومة لم تتعد بضع ثوان من الوقت، ليستفيق الرجل من فزعه على فراغ عم كل شيء فصار الخراب والدمار والفقد هو العنوان الرئيسي لكل ما يُحيط به.
الغريب والمُدهش والمُثير أن بطل الحكاية الواقعية المؤلمة والذي صار محوراً للفيلم التسجيلي المهم لم يستسلم ولم يكفر بالمقاومة النابعة من ذاته الأبية العصية على الانكسار، وظل يتفقد أطلال بيته بحثاً عن مُقتنياته من الكُتب والأوراق والصور التي تحمل ذكريات العُمر فهي آخر ما تبقى له من حصاد السنين.
لقد حاول الرجل المنكوب رفع الأنقاض مراراً وتكراراً عسى أن يجد بعض أشيائه، لكن الركام الذي خلفه القصف كان أقوى من محاولاته الفردية، لكن ذلك لم يُحبطه، حيث استمر في بحثه وجعل يُكرر التجربة ليُزيح ما استطاع إزاحته من الأحجار ليُفسح لنفسه مكاناً يفترشه لينام في بيته، فهو يرفض النوم بعيداً عن الأثر الذي يبذل قصارى جهده لإعادة بنائه من جديد، فلا مجال لكلمة مستحيل في قاموس حياته.
الرجل الحكيم
إنه ابن فلسطين وابن المقاومة وربيب الانتصار، ولا يحق له الاستسلام للعدم أو الموت قهراً كما يُريد العدو المُتربص بالأرواح والهمم، إنه الرجل الذي يعتز بهويته وكينونته ووجوده، جُل ما قاله ذلك المُثقف الكبير الذي قرأ التاريخ والجغرافيا وامتلك مكتبة زاخرة بأمهات الكُتب والوثائق، إنني لن أهدأ حتى أعيد بناء بيتي بمفردي، سأضع حجراً على حجر، وأشيد له سقفاً وأصنع منه ملاذاً آمناً يقيني برد الشتاء وحرارة الشمس وشماتة الأعداء.
العدو بكل عتاده ليس أقوى من إرادتي، هكذا كان لسان حال خشان، ينطق بما ينتوي فعله ويُصر على تنفيذه، ويكمل الرجل قائلاً: لقد فقدت أكبر أبنائي وبيتي وبيوت أولادي وأحفادي لكني لم أفقد ذاتي، فها أنا أحيا وسأظل حياً إلى أن يشاء الله، ولهذا سأتمسك بحُلمي في تشييد بيتي من جديد وسأعثر على كل مُقتنياتي المفقودة إن آجلاً أو عاجلاً.
تركز الكاميرا على ملامحه وقسمات وجهه العنيدة الصارمة لنرى كيف امتلك الرجل المُسن كل هذه القوة، وهو يُمارس البناء فعلياً ويأبى التوقف ولو للحظة، فالوقت يداهمه والشمس في طريقها للغروب وانسحاب الضوء سيُعطله ويُسلمه إلى ظلام دامس لن ينقشع إلا بشروق يوم جديد. إنها العزيمة انصبت كلها في مكنون هذا الرجل وتكوينه الصُلب وعقله المُفعم بالذكاء وعينيه اللتان تتقدان بشرارات الانتقام والرغبة في الأخذ بالثأر من الكيان الصهيوني الذي يتسم بالصلف والغرور والكبر وهو الذي يستعير قوة خارجية تُعينه وتقويه وتٌبقي على وجوده بلا قُدرة منه أو شجاعة.
وتتوالى عبارات الرجل الحكيم، بطل الحكاية الفلسطينية النضالية لتُبرز مواطن القوة في شخصيته وتُجلي المعاني البليغة التي تنم عنها لغته العربية الفصيحة الطلقة.
وبدورها تتولى الموسيقى التصويرية تدعيم الإحساس بالحالة الإنسانية التسجيلية الخاصة لتصل كاملة إلى المُتلقي بلا رتوش أو مواربة فيُدرك القيمة الحقيقية المُتضمنة في الدقائق القليلة من زمن الفيلم التسجيلي لمخرجه سعود مهنا، العامل على توثيق الأحداث والشخصيات والمواقف بدون نشيج أو صُراخ أو أية محاولة أخرى لاستعطاف المُشاهد، إنه فقط يُقدم الحالات الواقعية مُجردة بمواصفاتها وسماتها الحقيقية ووقعها الفعلي، فكل التأثيرات الدالة عليها تأتي من داخل النص المكتوب ومن صميم الصورة السينمائية لا من خارجها، ليكون التسجيل والتوثيق لائقين تماماً بها إذ لا مجال لمادة درامية يصنعها خيال الكاتب طالما توافرت الحقائق واكتملت المعاني على اختلاف بياناتها وبيانها ومضامينها الصادقة الغنية بكل التفاصيل.