كفاح محمود يكتب لـ “الأمة” : كردستان والقوة الناعمة
يتعرض إقليم كردستان منذ سنوات لضغوط عديدة داخلية منها وخارجية، وتكاد تكون الداخلية أكثر إشكالاً إذا ما علمنا أنها مسنودة من إيران تارةً وتركيا تارةً أخرى، فقد اتضحت تلك الضغوط المبرمجة في نهاية ولاية نوري المالكي بدورته الثانية، إذ خُفِّضت حصة الإقليم من الموازنة كما اتفقت كل الأطراف السياسية في حينها على 17 في المائة، وخُفِّضت إلى أقلّ من 13 في المائة عام 2013، ثم ما لبثت الحكومة الاتحادية أن قطعتها بالكامل لخمس سنوات متتالية (2014 – 2018)، أي ما مجموعه قرابة 45 مليار دولار، ناهيك بالهجمات التي تعرَّض لها الإقليم في أكتوبر (تشرين الأول) 2017 بقيادة الراحل قاسم سليماني و«الحشد الشعبي» والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا بالمُسيَّرات والصواريخ الإيرانية، ناهيك بالتوغل التركي لعشرات الكيلومترات وإرسائه قواعد عسكرية وصلت إلى تخوم مدينة الموصل في ناحية بعشيقة.
مع كل هذه الضغوط كانت المحكمة الاتحادية المساندة الرئيسية بقراراتها التي ألغت فيها كثيراً من قوانين الإقليم التي شرّعها البرلمان المحلّي والتي عدَّها القادة الأكراد خرقاً للدستور وللمواد التالية حصرياً: (116 – 117 – 118 – 119 – 120 – 121) المتعلقة بصلاحيات الإقليم واختصاصاته واعتراف الدستور بكل القوانين والتشريعات التي أصدرها، إذ ألغت المحكمة الاتحادية قانون النفط والغاز الخاص بالإقليم، كما ألغت قانون الانتخابات الإقليمي وشطبت أحد عشر مقعداً تابعاً للمكونات الصغيرة من هيكل البرلمان البالغ 111 مقعداً، مما دفع الإدارة الكردية إلى رفض تلك القرارات وعدّها توجهات عدائية ضد الإقليم.
ورغم كل تلك الضغوط الداخلية منها والخارجية فإن ردود فعل الإقليم وسياسته تميزت منذ إعلان فيدراليته عام 1992 واعتراف الدستور العراقي بذلك بوصفها فيدرالية تتمتع بالحكم الذاتي، بمرونة ودبلوماسية عالية وبعلاقات متوازنة مع محيطها ومع معظم الدول العربية والأجنبية بما جعلها كياناً سياسياً إيجابياً نال إعجاباً دولياً وإقليمياً متميزاً، حيث يتمتع الإقليم بعلاقات ممتازة مع دول الخليج العربي وفي مقدمتهم السعودية والإمارات، إضافةً إلى علاقاته مع مصر والأردن وبقية دول المحيط العربي، وعلاقاته الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والتحالف الدولي، ورغم أن علاقاته مع كلٍّ من تركيا وإيران لا تختلف عن علاقاته مع ما ذكرناه من دول إلا أنه يتعرض في حدوده معهما لعمليات عسكرية عنيفة، اخترقت في كثير من صفحاتها أراضي الإقليم جواً وبراً، مستخدمةً أسلحة ثقيلة كالمدفعية والطائرات، التي أدت إلى مقتل عشرات المدنيين من سكان الحدود وجرح أعداد أخرى، كما تسببت في تهجير آلاف الأسر من قراهم بسبب الصراع الحاصل بين الدولتين مع معارضيهم السياسيين الذين نقلوا ذلك الصراع إلى عمق أراضي الإقليم، ورغم ما يتمتع به من مشروعية الرد بالمثل، فإن مثل هكذا رد يعد تعقيداً للمشكلة وتوسيعاً لمساحتها، لذلك اختار طريق الحوار والعمل من أجل إقناع الأطراف المتصارعة بخيارات السلم وإبعاد الإقليم عن تلك الإشكالية.
لقد تعاملت الإدارة في إقليم كردستان، ولا تزال، مع معظم هذه الإشكاليات بمرونة معهودة بالحكمة والتأني وحسابات بعيدة المدى فيما يتعلق بالأمن والسلم الداخلي والإقليمي، وتأثيرهما في النهضة الاقتصادية والعمرانية والصناعية لكل الأطراف، وكانت الدبلوماسية الرفيعة خيار قيادة الإقليم، إذ قاد مسعود بارزاني قبل سنوات حوارات مكثفة مع الجانب التركي ومع معارضيه، أدت إلى اتفاق الطرفين على هدنة دامت قرابة السنتين، وقد استمر ذلك الخيار باستخدام هذه القوة الناعمة التي آتت ثمارها في كثير من الإشكاليات في الداخل والخارج وبالذات ملف الحدود مع تركيا وإيران، وقد أدركنا جميعاً في أثناء تأزم العلاقات بين تركيا والإقليم وتحشيدها عشرات الآلاف من جنودها قبل عدة سنوات، كيفية معالجة الموقف بهدوء وتأنٍّ من لدن القيادة الكردستانية، حينما خاطبت الأتراك قائلةً لهم: «إن مصالحكم العليا وأمن بلادكم واستقرار اقتصادكم يكمن في مئات الشركات التركية التي تستثمر مليارات الدولارات في كردستان والتي ستتعرض جميعها للخطر في حالة تأزيم الأوضاع إلى درجة الفعل العسكري».
لقد أدركت إدارة الإقليم بسلطاتها الثلاث وفعاليات الشعب السياسية والاجتماعية أن معالجة أي مشكلة من المشكلات تستلزم وعياً عميقاً وإيماناً راسخاً بمصالح البلاد العليا قبل فعل أي عمل أو رد فعل غير محسوب النتائج، وبذلك اعتمدت أسلوباً حضارياً ومدنياً تميز بالصبر والمطاولة والدقة في موضوع استهداف الإقليم من الميليشيات الموالية لإيران بشتى الأسلحة، ناهيك بالضغوط الكبيرة التي يتعرض لها الإقليم بالتلكؤ في تطبيق الدستور خصوصاً فيما يتعلق بالنفط والغاز والمناطق المتنازَع عليها وتأسيس المجلس الاتحادي والمحكمة الدستورية ومحاولات بعض القوى الطائفية التي حاولت إشعال نار الفتنة والحرب.
هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي وفيما يتعلق بانتهاكات دول الجوار شمالاً وشرقاً، فقد اعتمدت إدارة الإقليم النهج نفسه في مقاومتها ورفضها التدخلات والتجاوزات بالتظاهر والدبلوماسية الهادئة بعيداً عن تشنيج الرأي العام وإشاعة أجواء الحرب والقتال، التي لا تخدم أحداً في أيِّ حال من الأحوال بالحفاظ على إعلام هادئ ومتزن يحفظ الأمن والسلم الاجتماعيين. إن إقليم كردستان الذي يتميز اقتصاده ومجتمعه بالديناميكية والحيوية، ووضعه الأمني بالاستقرار، تحوَّل إلى ملاذ آمن لكل العراقيين ومنطقة جذب مهمة جداً للاستثمارات الوطنية والأجنبية، التي تسهم في تطوير الإقليم ونهضته الكبيرة، التي حوَّلت كردستان إلى ورشة كبيرة في كل ميادين البناء والإعمار والتصنيع وتحديث الزراعة وتطويرها، وما حصل في قطاع الكهرباء والطرق والخدمات الأخرى خير دليل على نجاح برامج الحكومة ودبلوماسيتها الهادئة في التعاطي مع الملفات الساخنة، بما يجعل كردستان في منأى عن أي عمليات طائشة ربما تؤذي مصالح كل جيران الإقليم الاقتصادية والمالية والسياسية وفي مقدمتهم تركيا وإيران اللتان تتمتعان بمصالح اقتصادية مهمة جداً في الإقليم.
لقد أثبتت السنوات الماضية، ورغم الحصار الاقتصادي المفروض على الإقليم، خصوصاً فيما يتعلق بحصته من الموازنة ومنع تصدير نفطه، أنه حقق إنجازات مهمة ومشاريع بالغة الأهمية في شتى الميادين، وإرساء منظومة علاقات دبلوماسية رصينة مع كثير من بلدان العالم، مما دفعها إلى افتتاح ممثَّليَّات لها في أربيل والعمل من خلالها لخدمة الاستثمارات في المجالات كافة التي تتيح تبادلاً مشتركاً للمصالح الاقتصادية والمالية بين دول الجوار والإقليم.
إن مصلحة كل من إيران وتركيا هي ترسيخ السلام في إقليم كردستان والحفاظ عليه، لأنه يحافظ بالتالي على مصالحهما الاقتصادية وسوقهما الكبيرة في الإقليم خاصة والعراق عامة، وغير ذلك مهما كانت الأسباب والمبررات سيعود عليهما بالضرر الكبير، لا من الجهات الرسمية بل من الأهالي الذين سيعزُفون تماماً عن أي مصلحة تركية أو إيرانية مهما كانت، وهذه بتقديري هي رسالة كردستان وقوتها الناعمة للجميع.