قصة قصيرة I شارع الخلا .. بقلم: محمد الصباغ

محمد الصباغ

رغم مرر كل هذه السنين التي مرت ، دون أن أدري أنها مرت وبمثل هذه السرعة التي مرت بها ، فقد تذكرت دفعة كبيرة من ذكرياتي ، وقد غمرتني فجأة ، ووجدتني مازلت أذكر  محطات حياتي كلها ؛ محطة من بعد محطة وكأني أدور حول الأرض لأرى الأرض من فوق ومن بعيد ، وأرى حياتي من بعيد ومن قرب .

لقد رأيت حياتي في سنواتي العشر الأولى وكسورها من السنين ، عندما مات ” جمال عبدالناصر ” في 28 سبتمبر  ” أيلول ” 1970 ، وقتها كان العالم ؛ عالم آخر أصبح فيه الهزيمة وفيه ولدت إسرائيل القبيحة لأول مرة ، بل جاء الطيران الإسرائيلي ، ليضربنا في مدينتا

” السلام والنيل والورد ” في مدينتا الجميلة ذاتها ، وقد حوم الطيران الفانتوم والاسكاي هوك والميراج ؛ فوق سطح بيتنا بينما كانت أمي تُحضر لنا الطعام وتقلي السمك الذي كنا قد اصطدناه من النيل المواجه لمنزلنا منذ ذهبنا ليلا في جماعتنا العائلية وصحبة ” الصيد”  في تجمعنا ساعة منتصف الليل لنصطاد حصيد رزقنا لنأتي به لأمي لتعد لنا به وجبة “سمك” يوم الجمعة كما كنا نفعل ذلك كل أسبوع .

ساعة صلاة الجمعة ، حوم الطيران الإسرائيلي ليضرب المطار الكبير ، القريب ، بينما الجميع مشغلون بالصلاة ، وأبي مع أشقاؤه في مقدمة المسجد  يصلون في آمان ويسمعون خطبة إمام صلاة الجمعة ، ونحن في الخلف في جامعنا نتبعهم ونسمع معهم ، حتى داهمنا الصوت الصارخ للهجوم الإسرائيلي ، وصوت دفاعاتنا الأرضية ، التي تحاول بجهد صد الهجوم المباغت المحشود لتنفيذه ، بكثافة هجوم طيران إسرائيلي غير عادية .

جاءت الذكريات منبثقة في داخلي ، متتالية ، عندما مات ” عبدالناصر ؛ فكأن الدنيا كلها انهارت في عيني الشاب الصغير الذي كنت وقتها ، والذي أصبح في خوف دائم بعدما اعتاد الطيران الإسرائيلي ، أن يأتي ليضرب القواعد العسكرية والمطارات في الدلتا ، ويرمي بإجرام القنابل الزمنية ، التي توالي الانفجارات ، بعد أن ينسحب الطيران ، فتصيب الانفجارات الجديدة المتولدة عن القنابل الزمنية ، المتجمعين لمشاهدة أثر الانفجارات الأولى ، والذين يساعدون في عملية الانقاذ .

كنت وقتها مازالت على حالة ” الطائر ” التي خُلقت عليها ، حيث كنت أرى المخلوقات بعين الطائر المحلق ؛ ومازلت أذكر أنه عندما مات

” جمال عبدالناصر” ؛ فقد أصبحت على حالة الطائر الذي استقر على الأرض بعد أن عجز عن الطيران والتحليق ولو بإرتفاع سينتمترات عن الأرض فقد انكسرت جناحاته وأصبح بلا ريش .

مازلت أذكر طفولتي التي أدميت بالهزيمة ، ووصول الطيران الإسرائيلي إلى سماء مدينتنا المنصورة  ، فأصبحت إسرائيل المزعومة البعيدة ، فوق كياننا كله تحدف الموت والخراب ومن بعدها فقد حدفت الموت نفسه على البطل ، ومات عبد الناصر ، ومن  بعد وفاته ، فقد رثاه أحدهم بجملة حفرت في ذاكرتي ، بل في كل كياني  ؛ وقد كتب على أحد البيوت بخط خطاط في ” شارع الخلا” بمدينتي المنصورة : “يا جمال يابن مصر ؛ مين هيخطب يوم النصر ؟ ” .

عندما كنت أعدي وأمر من هذا الشارع ” شارع الخلا ” ؛ عقب وفاة عبدالناصر وأنا مازلت طفلاً صغيراً وكنت أتأمل هذه الجملة ؛ كنت أراها كبيرة جداً وتأخذ كل مساحة عيني ، وكان يعصر قلبي الصغير الألم ؛ وأتصور إستحالة أن يأتي النصر من غير” عبدالناصر “؛ فإذا كان عبدالناصر نفسه لم يحقق النصر ؛ فمن سيحقق النصر ؟! .. وحدث بعد ذلك ونحن فى زيارتنا السنوية لمولد “السيد البدوي ” أن شاهدت الرئيس الجديد “أنور السادات” فى “طنطا ” (محافظة الغربية) يركب عربية جيب مكشوفة ويرتدي بدلة عسكرية وكاب فوق رأسه وقارنته بصورة عبدالناصر ؛ عندما رفعني أبي لكي أراه وهو يمر من شارع البحر فى المنصورة حيث كنا قد خرجنا كل أهل المنصورة تقريبا لمشاهدة موكب عبدالناصر ؛ فكانت المقارنة لصالح “جمال عبدالناصر ” ؛ الذي كان صوته وهو يخطب يسحرني ويزلزل جسدي كله بقشعريرة من يستقبل المجد مباشرة من فم الزعيم الخالد .

وظللت لثلاثة أعوام أمر على اليافطة المكتوبة في شارع الخلا ؛ وكلما مررت أمامها تدفق فى عقلي الصغير المسترسل في الحلم والخيالات ؛ تداعيات كثيرة جداً ؛ حتى حدثت حرب أكتوبر ” تشرين ”  1973 وكانت اليافطة على حالها ؛ ولكني عندها ؛ كلما مررت أمامها تبسمت وشكرت الله أن النصر قد تحقق ؛ وكان استغرابي أن اليافطة تركت على حالها وإن كان حجمها هو الذي صغر في عيني ؛ بل أن المنزل نفسه المكتوبة عليه “اليافطة الشعارية ” صار يصغر ويهبط في الأرض ؛ بعدما رصف شارع الخلا ؛ أكثر من مرة بعد الحرب !! . وحتى سنوات عندما كبرت في العمر وقد تعمدت أن أزور “شارع الخلا” وكانت قد مرت سنون تزيد عن الخمسين من عمري على مشاهدتي للبيت المكتوب عليه التساؤل عن من الذي سيخطب يوم النصر ؛ وكانت دهشتي أن الجملة مازالت مكتوبة ؛ في مكانها علي نفس البيت وفى نفس الموضع من الجدار ولكنها أصبحت أقرب إلى الأرض وكأن البيت قد غاص نفسه في الأرض ؛ ولكن حبر التساؤل المكتوب به كلمات التساؤل ولون الجدار الذي يحمله صار باهت جداً وكالح جداً .

عندما وجدت الجملة مازالت مكتوبة رغم مرور أكثر من خمسين عاما على موت “عبد الناصر” ؛ أو قتله ؛ كما تأكد ؛ عند هذا فقط قرررت الإنتقام ؛ ليس من “عبد الناصر” فحسب ؛ بل من كل الذين احتالوا علينا بإسم “عبد الناصر” وقد خدعونا مثلما سبق هو وخادعنا ؛ وتذكرت له خداعه ليّ عندما كنت صغيراً لكي أخدع ؛ فعندما كبرت وقد عرفت أن عبد الناصر قد خدعني وخادع غيري  ؛ ولما كبرت وعرفت ؛ فقد خادعته أيضاً ولكن خداع كبير لكبير ؛ وليس مثلما فعل هو معي خداع كبير لصغير ؛ وعند هذا فقط ومنذ ذلك الحين ؛ حين وجدت اليافطة المكتوبة بالحبر الأزرق مازالت عجوز على قيد الحياة ؛ يطالعها كل من يمر عليها ؛ فقد شرعت في رد إحتيال ” عبد الناصر” علينا ؛ بإدعائه أنه كان كل النصر وكل إحتواء الهزيمة وقد بذلت كل ما أستطيع من توثيق وتحقيق لكشفه ورد خداعه ؛ وكشفت أنه كان مخادعاً ؛ ورددت له الصداع صاعين ؛ وما أظنني الآن نادم على أنه قد خادعني صغيراً ولا على أنني لم أرفق به في موته وبعد أن كادت أن تموت آلة دعايته ، التى صار يعزف بها غيره ؛ حين رددت له الصاع صاعين ؛ برد خداعه صغيراً وكبيراً .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى