بيت الكريتلية بالقاهرة.. هنا رست سفينة نوح وتجلّى الله لموسى
كتاب ذو قطع مربع، لافت للانتباه بلونه وعنوانه: أساطير بيت الكريتلية، لجاير أندرسون، في يسار طرفه الأعلى طيور بيضاء، وتحتها إطار لصورة امرأة بزي شعبي رسمت بعناية، تذكّر بالسير الشعبية. العنوان والقطع والغلاف كفيلون بأن تهرع لاقتناء الكتاب. بعد البسملة وعلى هامش في ظهر الغلاف، كُتب: “والآن يا صديقي الكريم، إليك هذه الحكايات، حكايات بيت الكريتلية، بيت عائلي عتيق”. المقدمة التي تلت هذه الكلمات هي دون شك دافعٌ لرؤية البيت وزيارته.
من هنا تبدأ الحكاية
في 4 ميدان ابن طولون، بحي السيدة زينب، في قلب العاصمة المصرية، يقع البيت جوار جامع ابن طولون، إلا أنه يحمل اسماً جديداً: “متحف جاير أندرسون”.
بعد أنْ تعبر البوابة الإلكترونية، تجد على يمينها باباً خشبياً صغيراً، ولافتة تعلوه “ضريح الشيخ سليمان الكريتلي”، أمامك ستجد حديقة منزلية لبيتين متقابلين. وعندما تصل هناك، يستقبلك “راوٍ” ليقصَّ عليك الحكاية. يبدأ المرشد المصاحب، بطريقة آلية: “المتحف مكوّن من بيتين، بيت محمد بن سالم، وبيت آمنة بنت سالم، وربط بينهما جاير أندرسون، ضابط إنجليزي، وآخر ملاك البيت بقنطرة، ويعدان من الآثار الإسلامية المنتمية إلى العصر العثماني”. يتابع الرجل الأربعيني قائلاً: “البيت الأول أنشأه المعلم عبد القادر الحدّاد، عام 1540م، وعُرف باسم بيت آمنة سالم، كونها آخر من امتلكه، أما البيت الثاني، فقد بناه أحد أعيان القاهرة، وهو محمد بن سالم بن جلمام، سنة 1631م، وكان آخر من سكنه سيدة من جزيرة كريت، فعرف ببيت الكريتلية”. ويضيف: “بسبب الإهمال، ساءت حالة البيتين، إلا أن جاير أندرسون تقدم بطلب للحكومة المصرية، ليؤثث البيت على الطراز العثماني، وأصلحه، بعد حالته السيئة تلك”.
أساطير بيت الكريتلية
كتاب أساطير بيت الكريتلية، الذي كتبه أندرسون نفسه، وترجمه إلى العربية تامر الليثي، يخاطب قراء أوروبيين، وهذا تفصيل أساسيّ، لأنّ قصّة البيت أيضاً هي قصّة علاقة الغرب، وبريطانيا، بالعالم العربي، وبمصر تحديداً. في الكتاب يتحدث أندرسون عن قصة تملكه البيتين: “جئت إلى القاهرة عام 1906، لألتحق بالجيش المصري كطبيب، مثلما كنت في الجيش الإنجليزي”. ويتابع: “ولم تمض بضعة أيام حتى اصطحبت “ترجمان”، لمشاهدة بعض المعالم الأثرية، منها جامع ابن طولون. عند اقترابي من المسجد انبهرت ببيت ممتاز، بني من الحجر”. ولمزيد من الإثارة والغموض، يضيف أندرسون: “وأثارت انتباهي فتاة مصرية جميلة، ظهرت من إحدى المشربيات فجأة مكشوفة الرأس تتمايل وتناديني، تبتسم وتشير إليّ بالدخول”. ثمّ يقول: “قدمت استقالتي من جميع مناصبي الرسمية، عام 1924م، بعد مسيرة مهنية حافلة في خدمة مصر، ذلك البلد الذي أحببته فوق كل بلد آخر، بما في ذلك وطني الأم… كنت أبحث عن بيت عربي أصيل بالقاهرة، يبتعد عن الحياة اليومية للحي الأوروبي”.
وعند عودته إلى نفس المكان، يقول أندرسون: “فجأة انتابني شعور بأن هذا البيت سيصبح لي،.. كتبت إلى الهيئة الحكومية المختصة، طلباً بأن يسمح لي بالإقامة في هذا البيت في الفترة المتبقية من حياتي، إلى أن يردّ إلى الحكومة المصرية بعد موتي، معداً ومجهزاً بمجموعة من التحف الإسلامية الكبيرة…، وأصبح بيت الكريتلية لي!”
من مسكن عائلي عتيق، إلى بيت تلفه الأساطير، إلى متحف للآثار الإسلامية
بيت الكريتلية حيث رست سفينة نوح، وضحّى إبراهيم بابنه وتجلّى الله لموسى
أساطير البيت وحكاياته
لم يشر المرشد المصاحب إلى أساطير البيت وحكاياته، لكن قراءة الكتاب، تدفعك لأن تبحث أثناء زيارتك له عن آثارها التي حفرها صانع يدعى “عبد العزيز عبده” على النحاس وهي عبارة عن أطباق نحاسية صغيرة الحجم، دُوِّن عليها كلمات من الأساطير، ورسم يوضح الأسطورة. أما الرسوم الأصلية فهي محفوظة في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، بحسب كتاب أساطير بيت الكريتلية. في الكتاب، ثلاثة عشرة أسطورة، أوردها أندرسون على لسان شيخ يدعى سليمان الكرتلي، نسبةً إلى آخر العائلات التي سكنت البيت.
والذي يقول عنه أندرسون: “عزيزي الشيخ سليمان، أراه الآن بمخيلتي، مرتدياً قفطانه الأبيض الطويل، وسترته السوداء، على رأسه طربوش أحمر مهلهل بدون العمامة الخضراء التي عادة ما يلفها أولياء الله حول طرابيشهم، وبيديه مجموعة خواتم من الفضة والفيروز، أصابع يديه مصبوغة بالنيكوتين، فقد كان يدخن السجائر بشراهة، وهو يحتسي أكواب القهوة، أو يرشف القرفة”. كان سليمان الكريتلي في البداية يعتبر هذه الحكايات أساطيراً، إلا أن تحمس أندرسون للفكرة هو ما جعله يحكي بلا مواربة. هنا لا بدّ أن ننتبه إلى أنّ هذه القصص مروية بشكل خاص لأندرسون، وبأنها تستجيب في سردها، إلى حدّ ما، لانبهاره بالتراث المحلي.
يقول أندرسون في كتابه: “وسرعان ما أحسست بوجود شبكة من الروايات والحكايات تحيط بسيدي هارون، وضريحه بالبيت وبئره السحري، … وقد قضى الشيخ عمره في جمعها، وإن لم يقم بتسجيلها”. في قصة البيت، كما يرويها الكتاب، أيضاً تتبعٌ لمصير القصّ الشعبي عندما يوثّق ويكتب، وكيف تتحكم الكلمة المكتوبة بتفاصيله ومغزاه وطبيعته، بحسب من يرويه، ومن يكتبه ويقرأه. عندما بدأ أندرسون يسأل عنها، تحدث الشيخ في بادئ الأمر عنها على أنها خرافات، ولكن، كما يقول أندرسون في كتابه: “عندما لاحظ اهتمامي جديتي واهتمامي، وأخرجت ورقة وقلم لأدون ما يقوله، ازدادت ثقته بي، وأبدى حماسة”.
أسطورة أولى
“اسمع يا صاحبي حكايات البيت العتيق، بيت الكريتلية الذي توارثه أجدادي من زمن بعيد. لكن قبل ذلك، علي أن أبدأ بتاريخ الحي المبارك، بزمن قبل بناء البيت وجامع ابن طولون”. أوّل أسطورة تحكي عن وصول سفينة نوح، فتقول أنّ “جبل يشكر الذي بني عليه البيت وجامع ابن طولون العظيم، كان في سالف العصر والأوان أعلى جبل في مصر، وهنا رست سفينة نوح بعد الفيضان، لا على جبل “ارآرات”، كما ظن البعض”. وفي تلك البقعة، كما يروي الشيخ، بعد الطوفان العظيم، “لم ينج إلا نوح وزوجته وأولاده، وقد رست سفينتهم بعد الطوفان على جبل يشكر، فبنوا هنا أول المدن بعد دمار كل مدن الفراعنة الشامخة”.
هكذا يورد أندرسون الحكاية على لسان الشيخ سليمان الكريلتي، ولم ينس الشيخ أن يُطعِّم حكاياته المتوارثة، أو التي يقول البعض إنه اختلقها، بآيات من القرآن الكريم للقصة ذاتها. بحسب الشيخ وحكاياته، فإن تضحية إبراهيم بابنه كانت على الجبل أيضاً، وكذلك حكاية موسى مع سحرة فرعون، وتجلي الله لموسى عليه السلام.
أسطورة أخرى
من بين الحكايات التي أوردها الكتاب، ويرددها الناس عن البيت، حكاية البئر، والتي تحمل عنوان “البئر المسحور”، يقول سليمان الكريتلي: “اسمع يا صديقي حكاية الحب وصلتها ببئر الوطاويط”. هنا يقول جاير في كتابه إن اقتباسه لسياق تلك القصة جاء من عدة قصص وقرأها لأول مرة في صورتها الحالية في حفل زفاف الملك فاروق عام 1938. البئر نفسه بحسب مترجم الكتاب، تامر الليثي، قد ظهر في عدد من الأساطير والملاحم الشعبية الأخرى مثل سيرة سيف بن ذي اليزن. يقول سليمان بتصرف من جاير أندرسون: “اعلم أنه منذ زمن بعيد، سكنت في بيت الكريتلية أرملة غنية مع ابنتها الحسناء لطفية، وسكن في البيت المقابل شاب وسيم اسمه أمين، كان مثل لطفية وحيد أمه التي كانت هي الأخرى أرملة”. وحبكة القصة أنّ الشاب كان “رافضاً للزواج، ولخجله لم يكن له في الحب تجارب”. زرعت الأم التطلع والشغف في ابنها تجاه لطفية، إلى أن وقع في غرامها، فظل يراقب بيتها، ورغم ذلك لم يلاحظ هيام لطفية به.
“وذات يوم نادت أم لطفية ابنتها وأمرتها بجلب بعض الماء من البئر، وبعد تردد قامت لطفية وارتدت شالها، وعبرت حوش البيت إلى بئر الوطاويط”. ومع أنها كانت تخشى البئر وسحره فإنها كانت متشوقة “لرؤية مائه الذي ألهم الشعراء… فكل من دقق النظر [فيه] رأى صورة حبيبه”. عندما وصلت إليه، لم يستطع ماء البئر، بحسب القصة، مقاومة جمال لطفية، ففاض، ما دفع لطفية أن تهرب من بيتها، إلى البيت المقابل حيث كان أمين جالساً، يفكر في لطفية التي سكنت خياله. وبينما يسلك الماء طريقه، في ما يعرف في الحارة بسكة بئر الوطاويط، كان أمين قد وقع في غرام الصبية، وطلب من أمه أن تخطبها له، فانفكت عقدتهما وتغير مصيرهما بفعل ماء البئر المسحور.
تصوير أدبي وفني
ثمة حكايات أخرى للبيت، عاشتها الجدران في القصص المتخيلة وفي مشاهد تصويرية فنيّة، وربما شاهده معظمنا في أعمال شهيرة، لم نكن نعرف أنها لهذا البيت. فمثلاً، قلة من الناس تعرف بأنّ بيت الكريتلية كان أساساً للعالم الذي نسجه نجيب محفوظ، حيث أسكَن فيه السيد أحمد عبد الجواد، بطل الثلاثية المحفوظية الأشهر. وكذلك كان البيت ملهماً للسينما المصرية، فظهر في أفلام سعد اليتيم، والحرافيش، وشهد الملكة، ومسلسل الإمام الغزالي. كما استضاف الأغنية الشهيرة “بانوا … بانوا” لسعاد حسني، والتي صورت في قاعة الاحتفالات بالبيت، وهي القاعة نفسها التي صور فيها فيلم ألمظ وعبده الحامولي. أغنية “بانوا بانوا” لسعاد حسني: https://youtu.be/4Eu23iPhINE
هذا ما ذكره المرشد، رغم تجاهله لأساطير بناء البيت، بالطريقة الآلية نفسها، قبل أن يذكر قطع البيت الفنية وآثاره التي حُملت من الشرق والغرب لتستقرّ فيه. كان من بينها: رأس مزيف لنفرتاري، وتابوت مصري حقيقي، وصلبان وأناجيل من العصر القبطي، هنا صور لبعضها، في فيديو خاص .