هل تظل أمريكا بالمقدمة رغم صعود العملاق الصيني؟
هل تظل أمريكا بالمقدمة رغم صعود العملاق الصيني؟
كيف وصلت أمريكا لهذه الدرجة من الشك الذاتي في قدرتها والنظر بقلق للصين؟
مع تباطؤ النمو الاقتصادي الأميركي بشكل حاد خلال فصل الصيف هل يظل الاقتصاد الأميركية متفوقا على الصين؟
هل أميركا قادرة على قيادة العالم في ظل صعود الصين السريع والحتمي وفي ظل ما تواجهه من استقطاب وانقسام مجتمعي غير مسبوق؟!
دون الانفتاح الضروري لن تستطيع الصين منازعة أميركا في ريادتها للعالم حتى لو وصلت الصين لرقم واحد في الاقتصاد أو براءات الاختراعات.
يؤمن كثير بأن إزاحة أميركا من على قمة هرم قيادة العالم لا يزال بعيدا، استشهادا بأن العالم يحيا بالصورة والطريقة التي يختارها العقل والذوق الأميركي.
طريقة الحياة الأميركية يتم استنساخها حول العالم بسرعة مكوكية ناهيك عن السينما واللغة الانكليزية وسحرهما العالمي ومقارنتها باللغة الصينية المهددة لعرشها.
* * *
يكره الأميركيون المركز الثاني ولا يقبلون إلا بالمركز الأول، وتُغذّي الثقافة الأميركية هذا المفهوم. وكان من الذكاء أن يستعير الرئيس دونالد ترامب عبارة “أميركا أولا” ويمنحها رحيقا ترامبيا خاصا به، مما جعلها عنصرا مهما أسهم في انتخابه قبل أكثر من 5 سنوات.
ودفع فشل الولايات المتحدة في التعامل مع تفشي وانتشار فيروس “كوفيد-19″، وما تبعه من أزمة اقتصادية وتضخم كبير، ووفاة ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون أميركي، لطرح سؤال واجب حول ما إذا كانت أميركا قادرة على قيادة العالم في ظل الصعود الصيني السريع والحتمي من ناحية، وفي ظل ما تواجهه من استقطاب وانقسام مجتمعي غير مسبوق من ناحية أخرى.
لكن كيف وصلت أميركا لهذه الدرجة من الشك الذاتي في قدرتها والنظر بقلق للصين؟ لا توجد إجابة نموذجية عن هذا السؤال الذي يشغل أذهان علماء السياسة وخبراء الاقتصاد ويربك رؤية المؤرخين.
بداية منطقية للفهم تتمثل في مقارنة الدولتين من عدة نقاط أساسية، منها أن مقابل كل مواطن أميركي واحد يوجد 4.5 مواطنين صينيين، إذ اقترب عدد سكان أميركا من 330 مليون نسمة (4.3% من سكان العالم)، واقتربت الصين من 1.4 مليار شخص (18% من سكان العالم)، وبلغ حجم الاقتصاد الأميركي العام الماضي 21.4 تريليون دولار في حين بلغ نظيره الصيني 14.2 تريليون دولار، وبلغ متوسط دخل المواطن الأميركي من الناتج القومي 64 ألف دولار، وبلغ مثيله الصيني أقل من 10 آلاف دولار.
والعلاقة بين الدولتين كثيفة وشديدة التعقيد، وتظهر كثافة العلاقات بين الدولتين في أكثر من 80 رحلة طيران يومية مباشرة بلا توقف بين المدن الرئيسية في الدولتين، كما يوجد 4 ملايين مواطن أميركي أصولهم صينية، ويدرس في الجامعات الأميركية 360 ألف طالب أكثر من نصفهم طلبة ماجستير ودكتوراه يدرسون موضوعات العلوم التقليدية مثل الأحياء والفيزياء والكيمياء، ويدرسون أيضا العلوم الحديثة مثل الكيمياء الحيوية والفيزياء العضوية، والخلايا والاستنساخ، هذا بالإضافة لموضوعات التكنولوجيا والحاسوب والرياضيات. أما حجم التجارة بينهما فقد بلغ العام الماضي 559 مليار دولار منها 452 مليارا صادرات صينية مقابل 107 مليارات صادرات أميركية.
وتاريخيا، مثّل عام 2001 عاما فارقا في تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، في الوقت الذي عرفت فيه أميركا هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال الصين رخص الأيدي العاملة الماهرة والضخمة في جذب ملايين المستثمرين، ودفع ذلك لتنطلق الصين وتنجح في تحقيق معدلات نمو متوسطها 8% خلال الـ20 عاما الماضية.
على النقيض تورطت أميركا في حربها العالمية ضد الإرهاب والذي جرها لحربين مكلفتين في أفغانستان والعراق خرجت منهما فقط هذا العام. وتشير دراسة بحثية مشتركة صدرت عن جامعة براون المرموقة، إلى وصول تكلفة الحروب منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول وحتى نهاية العام المالي 2021 إلى 6.4 تريليونات دولار، ناهيك عن التكلفة البشرية ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان والعراقيين الأبرياء.
ولم تعرف الصين التورط في أي نزاعات عسكرية منذ انتهاء نزاع حدودي مع فيتنام عام 1979، وإن كانت تتبنى إستراتيجية توسع في بحر جنوب الصين، مما أجج خلافات على الحدود البحرية مع إندونيسيا والفلبين وفيتنام.
تعتقد المدرسة الفكرية الأميركية أن أميركا -الفكرة والحدوتة (والقصة)- عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة الأميركيين أن العالم ينتظر من الولايات المتحدة قيادته.
لكن دفعت 4 سنوات من حكم ترامب لزيادة مخاوف المدارس الفكرية الأميركية من قرب زمن الأفول الأميركي. ومثلت أحداث 6 يناير/كانون الثاني الماضي عندما اقتحم المئات من أنصار ترامب مبنى الكابيتول لعرقلة التصديق على نتائج انتخابات 2020 علامة سلبية فارقة في التاريخ الأميركي.
ووصف السيناتور الجمهوري بن ساسي اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي بأنه “تعرض أعظم رمز للحكم الذاتي في العالم للنهب، بينما كان زعيم العالم الحر لا يكترث ويغرد ضد نائبه لقيامه بواجبه الدستوري الذي أقسم عليه”.
ورغم ذلك يؤمن الكثيرون بأن إزاحة أميركا من على قمة هرم قيادة العالم لا يزال بعيدا، استشهادا بأن العالم يحيا بالصورة والطريقة التي يختارها العقل والذوق الأميركيان من خلال تطبيقات تكنولوجية متنوعة من الآيفون وتويتر إلى الفيسبوك وغوغل، ومن أمازون إلى مايكروسوفت ومرورا باليوتيوب وإنستغرام.
ويرون كذلك أن طريقة الحياة الأميركية يتم استنساخها حول العالم بسرعة مكوكية، ناهيك عن السينما واللغة الإنجليزية وسحرهما حول العالم، ومقارنتها باللغة المهددة لعرشها، وهي اللغة الصينية.
وتؤمن هذه المدرسة بغياب أي خطر حقيقي على القيادة الأميركية، ويدعم ذلك احتفاظ الجامعات الأميركية بمسافة طويلة جدا تبعدها عن أي منافسة حقيقية مع أي من نظيراتها حول العالم، وطبقا لترتيب أفضل جامعات العالم الذي تجريه جامعة شنغهاي الصينية، كان نصيب الولايات المتحدة 17 من بين أهم 20 جامعة حول العالم، في تصنيف عام 2020.
أزاحت الصين الولايات المتحدة خلال عام 2019 عن عرش أكبر مصدر لطلبات تسجيل البراءات في العالم للمرة الأولى منذ إقامة تلك المنظومة قبل أكثر من 40 عاما. ويعد ذلك سببا قويا للقلق الأميركي، حيث تتعلق اللعبة الكبرى بين الدولتين “بمعركة السيادة الرقمية”.
ودفع تعقد صناعة التكنولوجيا لتعاون الطرفين في الكثير من المجالات، بل دفع كذلك لاعتمادهما على البعض بصورة متكررة، وعلى سبيل المثال يُكتب على تليفونات شركة آبل الأميركية عبارة “صُمم في كاليفورنيا، وجُمع في الصين”، ولهذا السبب لن نرى صراعا، بل سباقا إلى أن تتغير طبيعة المصممين والمجمعين.
ورغم تأكيد مؤسسة غولدمان ساكس أن الاقتصاد الصيني سيحل محل الأميركي كأكبر اقتصاديات العالم عام 2027، فإن هذا لن يعني الكثير إلا إذا منح النظام الصيني الثقة لنفسه وسمح لشعبه باستخدام ما هو ممنوع هناك حاليا مثل تطبيق فيسبوك وتويتر، أو قراءة نيويورك تايمز وأخبار وكالة رويترز.
ودون ذلك الانفتاح الضروري لن تستطيع الصين منازعة أميركا في ريادة للعالم حتى لو وصلت الصين لرقم واحد في الاقتصاد أو براءات الاختراعات.
* محمد المِنشاوي كاتب وباحث سياسي في الشؤون الأميركية من واشنطن.