سجون الصين السوداء في بلاد العرب.. بقلم: عادل صبري
اهتمت وسائل الإعلام الدولية بعرض تقرير بثته وكالة الأنباء الأمريكية أسوشيتدبرس عن تعرض فتاة صينية للاختطاف من أحد فنادق دبي، واحتجازها من طرف مسؤولين صينيين في فيلا لمدة 8 أيام. وقالت الشابة الصينية (26 عاما)، إن المستجوبين الصينيين، أجبروها على توقيع اعتراف ضد خطيبها، الذين يعتبرونه منشقا صينيا، بهدف إدانته، حيث يبحثون عنه بتهمة الحصول على تمويل أجنبي للإضرار بالمصالح الصينية.
اعترفت الشابة وو خوان، التي طلبت حق اللجوء إلى هولندا، بأنها شاهدت سجينتين آخريين من أقلية الإيغور المسلمة في الفيلا نفسها، التي يطلق عليها الخبراء «الموقع الأسود»، الذي تتخذه الصين سجونا خارج حدودها. تجاهلت السلطات الإماراتية الحدث، بينما أكد خبراء للوكالة الأمريكية، صحة المعلومات التي أوردتها الشابة، خاصة المتعلقة بالشخص الذي حضر جزءاً من التحقيقات، في هذا السجن الخاص، قبل تسليمها إلى مركز شرطة دبي، الذي تبين أنه القنصل العام في دبي لي زو هانغ، وانصبت رغبة المسؤول في حواره مع السيدة التي يبدو من اسمها أنها تنتمي إلى قومية الهان، حول رغبته في معرفة من يقف وراء صديقها. ويبدو من المعلومات التي أوردتها الوكالة لدعم موقفها، أنها تحمل تسجيلا على الهاتف لذلك المسؤول وهو يطرح عليها الأسئلة، ورسائل نصية من السجن إلى قس يساعد الطرفين، بما يعني أنه ربما تكون وخطيبها من الصينيين الذين تحولوا إلى الديانة المسيحية، وهناك من ساعدهم على الخروج من الصين إلى دبي لتكون محطتهم للانتقال إلى بلد ثالث يسمح لهم بالحرية الدينية التي يفتقدونها في وطنهم.
الذي يهمنا في قضية الشابة وو خوان وأمثالها، هو التحول الكبير الذي حدث في توجه الصين نحو ملاحقة خصومها في الخارج، فالصين تلك الدولة التي تسوق نفسها على أنها تعمل على نشر مبادئ السلام والاستقرار الدوليين، ولا تتدخل في شؤون الغير، بدّلت استراتيجيتها خلال العقد الماضي، بما جعلها تبني مجموعة من التحالفات الأمنية والعسكرية التي تساهم في تحويلها إلى قوة عالمية كبرى، تمكنها من السيطرة على الوضع الداخلي، وأن تكون قوة كبرى في محيطها الإقليمي، وتلاحق المعارضين في الخارج، عدا ما تقوم به ضدهم في الداخل، من مطاردات أمنية وتعذيب في السجون، وتغيير أماكن الإقامة قسريا. لم تعد الصين تلك الدولة الوديعة التي تتغنى بحرية الشعوب العربية والعالم الثالث، وتناهض الاستعمار والنظم الرجعية، وهي الصفات التي دفعت العرب إلى الاعتراف بسلطة الحزب الشيوعي الحاكم، ومنحته حق تمثيل الأمة الصينية في الأمم المتحدة، بل تغاضت عما فعله الحزب من اضطهاد لأصحاب الأديان السماوية، وما ارتكبه من فظائع إنسانية في التبت وضد المسلمين الإيغور والمناطق الحدودية في آراكان بميانمار. ورغم حفاوة العرب بتقدم الصين، في العقود الأربعة الماضية، إلا أنها كانت تعتبر المنطقة العربية والشرق الأوسط منطقة ثانوية قليلة الأهمية. ظلت الصين على هذا الأمر حتى حدثت التحولات الكبرى مع انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011.
في دراسة لمؤسسة «راند» الأمريكية للأبحاث، أوضحت فيها «اليوم تتخذ الصين من الشرق الأوسط حيزا أوسع بكثير من أي وقت مضى، في حسابات الأمن القومي»، فالصين اهتمت بالمنطقة مع بداية تطبيقها سياسة الانفتاح والإصلاح من منطلق اقتصادي، تحول بعد ذلك إلى تأمين لمصادر الطاقة، والأسواق الواسعة والغنية بمواردها المالية، وذات الفرص الواعدة أمام الشركات الصينية، الباحثة بنهم عن المشاركة في إقامة مشروعات البنية الأساسية التي تحتاجها تلك الدول، أو التي تخدم استراتيجية الصين للسيطرة على اقتصاد العالم عبر مشروع «الحزام والطريق» الذي أعلنت عنه عام 2013. نجحت الصين بجدارة في الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع بلدان المنطقة كافة، رغم التضاد في المصالح عبر المستوى الإقليمي، كما في حالة إيران ـ السعودية، مصر ـ إثيوبيا، إسرائيل ـ فلسطين، العراق ـ تركيا. وتمكنت الصين من القفز على حالة الفوران السياسي بدول الربيع العربي، ففي الوقت الذي أعلنت فيه التدخل في إرادة الشعوب، أصرت على بقاء نظام بشار الأسد، واحتفظت بعلاقات جيدة مع نظام مبارك، ثم دعمت نظام الثورة في عهد المجلس العسكري بالمال والمعدات، ووضعت أسس علاقة استراتيجية مع الرئيس الأسبق محمد مرسي في عهد الإخوان، الذي تراجعت عنه بعد أن طالبها بضرورة الحفاظ على حقوق المسلمين في تركستان الشرقية، وهو الإقليم الذي تعيش فيه أقلية الإيغور المسلمة، والذي تسميه الصين «شينجيانغ». هذه المفارقة جعلت بكين تدعم نظام الحكم الجديد الذي أزاح مرسي والإخوان عن السلطة، منذ اللحظات الأولى ووقعت معه شراكة استراتيجية، لاسيما بعد توافقهم على ما قاله السيسي، «الإسلام السياسي، يتربى عليه الإرهابيون الإسلاميون الذين يهددون الاستقرار في أنحاء العالم». هذه المقولة التي اتفق الطرفان عليها مرارا، شجعت الصين على التحالف مع النظم الكارهة للربيع العربي، وضمت إليها إيران في تحالف لمحاربة تيار الإسلام السني، باعتباره المذهب الديني المحفز للشباب على الجهاد. وتعتقد هذه النظم والصين، بأن المذهب السني يدفع الشباب إلى المشاركة في تشكيل جماعات استشهادية على غرار تنظيم «الدولة في العراق والشام» ومجموعات «الذئاب المنفردة» في مناطق الإيغور وأنحاء العالم. وبذلك وظفت الصين علاقاتها الاقتصادية الوثيقة بقادة المنطقة، لإنقاذ مصالح مواطنيها التي تضررت في بلدان ثورات الربيع العربي، في ليبيا، واليمن ومصر وسوريا. ويبلغ تعداد الصينيين في الدول العربية نحو 550 ألف شخص 300 ألف منهم في الإمارات وحدها، ورغم خروجهم من ليبيا وسوريا إلا أن أغلبهم تمركز في المغرب والجزائر ومصر، والقليل منهم في العراق والسودان وموريتانيا.
أصبحت الصين الشريك التجاري الثاني للعرب، بإجمالي 260 مليار دولار العام الماضي فقط، وتستورد 50% من احتياجاتها من الطاقة من المنطقة، ومع تنامي شعور المواطنين العرب بالدور السيئ الذي تمارسه ضد المسلمين، سعت إلى تأمين مصالحها باتفاقات أمنية مع الأنظمة العربية، وبدأت بمصر في سبتمبر 2016، حيث وقعت اتفاقية أمنية سمحت بملاحقة الطلاب الإيغور الذين جاءوا للدراسة في الأزهر، من دون موافقة الحكومة المركزية في بكين، أو من تشك فيهم السلطات الصينية بممارستهم أي أعمال تدعم حقوق أقاربهم داخل الصين، أو في الخارج. وألقت وزارة الداخلية القبض على العشرات منهم، أثناء وجودهم في المطارات، وبعضهم سلّم إلى السلطات الصينية، بما تسبب في رد فعل غاضب من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان. كما طلبت الصين من سوريا وتركيا والعراق منحها أسماء الإيغوريين الذين انضموا إلى «داعش» في العراق وسوريا، بعد نشر معلومات غربية بأن تنظيم «داعش» ضم نحو 100 من شباب الإيغور، وبعضهم تمكن من الفرار من سوريا والعراق، بعد سقوط «داعش»، ويسعون إلى العودة إلى بلدانهم. وعقدت الصين اتفاقا مماثلا مع دولة الإمارات عام 2019، شمل النواحي الثقافية والأمنية كافة، مع وجود مخاوف من أن تتسرب شخصيات من الإيغور أو المطالبين باستقلال هونغ كونغ والتبت في مكان اتخذت منه الشركات الصينية مقرا مركزيا لإدارات مؤسساتها الحكومية والخاصة في الشرق الأوسط. فالحزب الشيوعي أصبحت لديه مخاوف من انتشار المعارضين له في الخارج، وفكرة الجهاد الإسلامي، لنصرة المسلمين داخل الصين، ويخشى مع الدعم الغربي والأمريكي لمسلمي شينجيانغ أن ترفع دعوات انفصال هذه المنطقة عن الدولة.
كما تسعى الصين إلى مواجهة الاحتواء الأمريكي، في شرق آسيا وانسحابها من الشرق الأوسط، بالعمل على تأمين مصالحها الاقتصادية بمزيد من التدخل العسكري والاتفاقات الأمنية مع دول المنطقة، وبالتأكيد سيصب كل ذلك في سعيها إلى أن تعترف دول المنطقة بفضل الصين في المحافظة على استقرار نظمهم ودولهم، وضمان ثرواتهم، وبأنه يمكن أن يعتمد عليها كدولة عظمى تكون بديلا عن الولايات المتحدة، التي تنسحب تدريجيا من المنطقة، من دون أن تسلم راية الزعامة لدولة محددة، وتركت الجميع يصارع من أجل البقاء.