الزّعيم المرياع .. بقلم د. زهرة عز / المغرب
لايدرك قطيع الأغنام مدى شفقتي عليه ، ولايدركون كيف ولم امتهنت غواية القيادة !
ترويعهم يمدّني بالقوّة فأكبر وصوفي ينمو أكثر ،،منتفخ الأوداج أقف بين المروج فاردا عضلاتي وقروني الحلزونية أكاد ألامس السماء. أمشي ، أتمايل ذات اليمين وذات اليسار ألتفت خلفي ولا أرى سوى عجيزتي الكبيرة المكسوّة بصوف كثّ خيوطه البيضاء تبرق تحت أشعة الشمس ،، فأقفز حبورا وتكبّرا .أركل برجلي مزهوا بجمالي . امتهاني للزّعامة ربّما نكاية بقدري .
أقفز وراء فراشة بألوان الطيف خرجت حديثا من يرقتها تحاول مدّ أجنحتها ، تحطّ على ظهري كمحطّة أولى قبل أن تختفي بين الزهور . بالتأكيد تعرف وجهتها كأي كائن حرّ.جرسي يدقّ من جديد وأنا أحرك عنقي لأنظر أقرب للأرض حتّى أرفس بقدمي ظلّي المخيف .ووجدتني فجأة وقد أحاطت بي النعاج والخرفان . كنت أحاول عبثا أن أشرح لهم أنني لست المنادي بل هو جرس أعلن ارتباطه الأبديّ بي .
يا لسخرية القدر! بحوزتي جرس عجيب يتملّكني ، صوته السّحري المتناغم يكاد يتحكّم في الكون فترى العصافير مذعورة قد حلّقت بعيدا. وحتى لو تلاعبت به رياح خفيفة يطلق ذبذبات مبهمة لإبعاد الفراشات ،، عاجز أنا عن التحكّم به ، لصيق بي هذا الخبيث . لاخلاص لي منه ولا علاج . غادرتني سحابة السعادة العابرة حين أدركت أني أصبت بلعنة ذبذباته ،، مرضي مزمن : متلازمة الجرس.
جرس يتدلّى من عنقي ولا أستطيع انتزاعه . كم أتوق لرميه بعيدا حتّى أتحرّر . يذكّرني دائما بسجني وخنوعي. طوقه يكبّل صوتي والثغاء حلم بعيد . وحتى لاينتبه قطيع الماشية لعجزي أصبح الصّمت ملاذي حين أواجه طواحين الهواء.
تفاقمت تعاستي وتضاعفت عزلتي وأنا أرى حسناء المروج تتنطّط حولي بدلال وغنج حتّى أنّها لامست وبري بوجهها اللطيف فلم تحرّك فيّ ساكنا . اخترقني سهم من نظراتها الشّقية أصابني في مقتل وأسقط برجي العالي. ورأيتني أثغو في صمت قاتل : لقد اغتصبوا خصوبتي منذ البدء وأطعموا خصيتي للكلاب فلا أمل منّي يرجى ، ولا حول لي ولا قوّة ،معذّبتي،،عندما بحثّ عن ذاتي ولم أجدني احترفت الصمت كما الخنوع .ماعدتُ ذلك الحمل البرىء منذ انتزعت من حضن أمّي وفطمت عن حليبها ولم أتجرّعه. ومنذ أدركت خداع الفلاح، وجع أمي في فمي ،،من أكون؟ أنا الهجين، المقيّد بذبذبات الهواء .أحمل كفني فوق ظهري ، وأنتظر ،،ثغائي هسيس مجنون فقد البوصلة ،، جائع أنا للعدل والمحبّة والعشب،،،
أجلس مدثّرا بوبري الكثّ فوق رابية أتأمّل السّهل على مدّ البصر ،،الماشية تتلذّذ بالعشب وأنا أقضم قطع خبز يابسة وانظر بحسرة وحيرة لحسناء الحقل التي ابتعدت في استسلام بعدما رمتني بآخر سهم من الشفقة ولسان حالها يقول :لقد كشفت سرّك وحصلت على الخبر اليقين ،،
لامناصّ لي إذن من التصرّف درء للفضيحة ورحمة بنعاجي وخرفاني حتّى أكفّ سكّين القدر عنهم . فالإلاه لم يضجر بعد من لعبته السرمديّة ،، لعبة القرابين …
قفز الفلاّح فزوعا وهو يرى مرياعه الضخم بقرونه الكبيرة يغادر الربوة ويجري نحو الجبل . جرسه يدقّ دون انقطاع والأغنام تجري وراءه بلاوعي أو إرادة بينما بحّ صوت حسناء النعاج . لم يتوقف ثغاؤها محاولة إيقافهم ،، : عاجز زعيمنا لا إرادة له ولاصوت ،،لايملك من نفسه شيء ،، هو سجين الوهم والجرس زنزانته الضيقة . تراجعوا ، تراجعوا قبل فوات الأوان ،،
وقف المرياع على حافة الجبل وقدره . وقبل أن يهوي أسفل المنحدر حيث الوادي ويقفز وراءه الاخرون ، رمى الحسناء التي أسقطت قناعه ولمست حقيقته المرّة بنظرة شكر واعتذار ..ثم ساد صمت رهيب ، وبعد كلّ الغوغاء والجلبة خبا صوت الجرس حدّ الموت فاسحا المجال لقدسية جثث وأكفان مكسوة بعشب المروج وقد طفت غباء فوق الماء…
،،، ككلّ ليلة، عبد الصّادق يتقلّب على صفيح ساخن . هبّ مبلولا، مفزوعا ،، جلس على حافّة سريره البارد . يتصبّب عرقا يطارده كابوسه اليومي . نكّس رأسه ذليلا يسترجع كلّ الأحلام التي سرقها منهم ..مدّ يده لرفّ قريب تناول سلسلة “غارغنتوا وبانتاغرويل ” لكاتبها فرانسوا رابلي،، قرأ بصوت أراده قويا :كيف أكون قادرا على قيادة الآخرين إذا لم أكن قادرا على قيادة نفسي ؟؟ تنحنح بسلام وهو يستعد لقراءة قصّة “خرفان بارونج” آملًا أن تراوده لاحقا أحلام وردية . سيحرص أن يكون “بارونج” وليس إحدى الخرفان او التاجر الجشع … حينها هدأ روعه واطمأن قلبه ،، ثم أقسم أن يصدق في وعده هذه المرّة و ينسحب،،،